هل ندم الأردن على التطبيع مع نظام الأسد؟

ازدادت مؤشراتُ تراجع التطبيع الأردني مع نظام الأسد في ظل ما جرى مؤخراً من اتهامات أردنية متزايدة لنظام الأسد بالمسؤولية عن زيادة نشاط تهريب المخدرات على الحدود الأردنية السورية بالتواطؤ مع مليشياتٍ مواليةٍ لإيران في الجنوب السوري.

التصريحات الأردنية خرجت من دائرة الإشارة والتلميح إلى الاتهامات المباشرة والعلنيّة، إذ صرّح الجيش الأردني مؤخراً أن وحداتٍ من جيش نظام الأسد موالية لإيران ومليشيات إيرانية تُكثّف محاولاتها لتهريب مخدراتٍ بمئات الملايين من الدولارات عبر الحدود الأردنية إلى دول الخليج، متحدثاً عن استعداده لتصعيد المواجهة مع مهربين مسلحين يحاولون العبور بكميات كبيرة من المخدرات على امتداد الحدود الوعرة مع سوريا.

وجاء ذلك بعد أن نَفِدَ صبر عمّان عن الاستمرار بالتجاهل عن الإشارة لمسؤولية نظام الأسد، فخلال الأشهر الماضية كانت معظم التصريحات الأردنية تتحدث عن ضبط محاولات تهريب على الحدود الشمالية ومواجهة مهربين يفرون نحو العمق السوري، من دون أي إشارةٍ إلى دور نظام الأسد، سعياً منها فيما يبدو لإعطائه الفرصة لضبط الأوضاع والحد من نشاطات التهريب، وهو ما لم يحصلْ إطلاقاً بسبب ما هو معروف عن الاعتماد الشديد للنظام -خاصةً في الفترة الأخيرة- على تجارة المخدرات كمصدرٍ للتمويل، ولذلك فإنه لا يكاد يمرُّ أسبوعٌ دون أن تُعلن القوات الأردنية عن إحباط محاولة تهريب مخدرات.

وتنبُع المخاوف الأردنية من أنَّ نظام الأسد سهّل ومنحَ للمليشيات الإيرانية كافة اللوجستيات اللازمة لتحويل المناطق الحدودية إلى بؤر خطرة تحاول من خلالها المليشيات الاختراق إلى الداخل الأردني، ولذلك فإن المتحدث باسم الجيش الأردني، مصطفى الحياري قال إن بلاده تواجه حرب مخدرات من قبل “التنظيمات الإيرانية. هذه التنظيمات هي الأخطر لأنها تأتمر بأجندات خارجية وتستهدف الأمن الوطني الأردني”، بحسب وصفه.

ووفق ما تقول مصادر محليةٌ عديدة في الجنوب السوري فإنَّ المليشيات الإيرانية لديها انتشارٌ واسع في مناطق الجنوب السوري، وتعمل على التستر بزي عناصر النظام، لاسيما عناصر “حزب الله” الذي يعتمد بشكل أساسي على تجارة المخدرات في التمويل بحسب العديد من التقارير الحقوقية، ومما يشجع نشاطات الحزب الدعم اللوجستي الكبير الذي يحظى به من قبل النظام والذي وصل لحد العمل على تهريب المخدرات بواسطة الطيران المسير.

أين هي القوات الروسية عن النشاط الإيراني بالجنوب؟

قُبيل الوصول لاتفاق “التسوية” في تموز عام 2018 والذي أفضى لسيطرة نظام الأسد على مناطق درعا وريفها وخروج المعارضة نحو الشمال السوري مع السماح ببقاء من يرغب شرط توقيع “التسوية”؛ كان هناك حديثٌ عن ضماناتٍ روسية بإبعاد المليشيات الإيرانية مسافة لا تقل عن 70 كم عن الشريط الحدودي، ولكن هذه الضمانات ظلت حبراً على ورق بسبب استغلال إيران سيطرة نظام الأسد على درعا لتزيد من نشاطاتها المختلفة على الصعيد العسكري، وعلى صعيد نشر أذرعها لنشر التشيع، وصولاً إلى السيطرة على المناطق الحدودية وفتح ثغرات فيها لتهريب المخدرات.

ولا يمكن القول إن القوات الروسية تغاضت تماماً عن الأنشطة الإيرانية، بل إنما وضعتها في إطار المراقبة مع التضييق أحياناً عليها عبر فصيل “اللواء الثامن” الذي يُشكل عناصر المعارضة سابقاً جل قوامه، وهذا الأمر أفضى إلى حدوث نزاعاتٍ وصراعات بين القوى الموالية لإيران ونظام الأسد والأخرى المدعومة من قبل روسيا، ما أدى لاستمرار حالة الفوضى الأمنية وأعطى إيران مساحةً أخرى للتحرك بأريحية في الجنوب السوري مستغلةً عمليات النظام الأمنية بحجة ملاحقة “المطلوبين”.

ظل هذا الوضع على ما هو عليه قرابة 4 سنوات منذ توقيع اتفاق “التسوية”، ولكن الجديد أنه وبعد اندلاع الحرب في أوكرانيا زادت المخاوف الأردنية بشكلٍ أكبر على ما يبدو، وهو ما تجلى بشكلٍ واضح في تحذيرات العاهل الأردني، عبد الله الثاني من الفراغ الذي تخلفه روسيا في سوريا، مشيرا إلى أن إيران “تملأ هذا الفراغ”.

وأضاف أنَّ ملء إيران ووكلائها الفراغ الذي تخلفه روسيا في سوريا قد “يؤدي إلى مشاكل على طول الحدود الأردنية”، مشيراً إلى أنّ “الوجود الروسي في جنوب سوريا كان مصدر تهدئة، ولكن مع انشغال موسكو في أوكرانيا، فإن الأردن يتوقع تصعيداً في المشاكل على الحدود”.

إذن فإنّ الأردن كان يعتبر وجود القوات الروسية في الجنوب السوري “عامل تهدئة”، رغم نشاط الروس النسبي وغضهم الطرف في كثير من الميادين عن التمدد الإيراني، ولكن فيما يبدو فإن أيَّ شكلٍ من أشكال الوجود الروسي يمكن أن يشكل عامل مضايقة على الإيرانيين ويجعل تحركاتهم تحت المراقبة، وهذا ما قد يغيب بالوقت الحالي، لاسيما مع محاولة موسكو اللعب بورقة المليشيات الإيرانية لتخويف “إسرائيل” وإجبارها على عدم الوقوف في صف أوكرانيا، فتل أبيب تدرك تماماً ضرورة التنسيق واستمرار الخط الساخن مع موسكو في سوريا، وتعول على روسيا في ضبط تحركات إيران قرب الشريط الحدودي.

هل ندم الأردن على التطبيع وسعيه لتخفيف عقوبات “قيصر” عن الأسد؟

قاد الأردن حملةً مكثفة خلال الأشهر الماضية لتخفيف العقوبات عن نظام الأسد وإعادته “للحضن العربي” والجامعة العربية، كما قال العاهل الأردني بتصريحات خلال مقابلة له في أثناء وجوده بواشنطن إن “هناك استمراريةً لبشار الأسد في الحكم، والنظام ما زال قائمًا، ولذلك علينا أن نكون ناضجين في تفكيرنا، هل نبحث عن تغيير النظام أم تغيير السلوك؟”، ليعقب ذلك انفتاح سياسي واقتصادي بين نظام الأسد والأردن.

وربما كان الحراك الأردني مندفعاً برغبة عمّان في تنشيط اقتصادها لكونه تضرر بشكلٍ كبيرٍ بعد الحرب في سوريا، ويبدو أن الحسابات الأردنية كانت تعود من منطلق أنَّ نظام الأسد سيتغير فعلاً لحاجته في العودة “للحضن العربي” والبدء بالتطبيع مع الدول العربية بشكلٍ تدريجي، ولكن هذا ما أخطأت به عمان، جراء عدم وجود أي تغيير في بنية النظام، فهو قائم على الكثير من الأنشطة غير المشروعة والتي من ضمنها المخدرات، ولكن ما يجعل الأمر أخطر على الأردن هو التعاون الوثيق بين نظام الأسد والمليشيات الإيرانية عسكرياً وأمنياً في محاولة نقل هذه المخدرات إلى الداخل الأردني.

إضافة لذلك فإن نظام الأسد لم يُبدِ أي إشارة برغبته الابتعاد عن المحور الإيراني، وهي الحجة التي عادة ما كانت تضعها الدول الساعية للتطبيع، كتبرير للتقارب مع النظام، وربما المجريات الأخيرة من زيارة بشار الأسد إلى طهران إضافة للانتشار الإيراني المتزايد في سوريا بعد الانسحاب الروسي من عدة مناطق، وصولاً إلى الاتفاقات الاقتصادية المتكررة والتي كان آخرها الخط الائتماني تدلل كلها على عمق العلاقة الوثيقة بين نظامَي طهران والأسد، ويجعل استحالة سحب الأسد عن الحضن الإيراني، خاصة أن الحرب الأوكرانية دفعت بشار إلى الاعتماد بشكل أكبر على إيران في ظل التوقعات بأن تدوم الحرب لفترة طويلة ما يجعل روسيا مضطرة إلى تقليل الوجود العسكري بسوريا.

بناء على ذلك فإنه يمكن القول إن الأردن ارتكب خطأ استراتيجياً بالانفتاح الكبير على نظام الأسد والسعي لدعمه وتخفيف العقوبات عنه، وذلك بعدما رد بشار الأسد وأجهزته الأمنية الجميلَ إلى الأردن بمحاولة إغراقه بالفوضى وجعله مكاناً أساسياً لترويج وبيع المخدرات وممراً لتهريبها إلى دول الخليج العربي.

في ذات الوقت، يعتقد البعض أن العلاقات بين الطرفين قد لا تنهار تماماً لأنّ ملف التطبيع منعزل عن ملف المخدرات، لكون المقاربة الأردنية مع نظام الأسد تقوم على الجانب الاقتصادي بالدرجة الأولى، بسبب حاجة الأردن للانفتاح الاقتصادي في ظل الضائقة المتكررة التي تمر بها، في حين أن الهدف لدى نظام الأسد هو سياسي ثم اقتصادي، فهو يرغب في أن يكون التطبيع مقدمة لشرعنته تدريجياً مع بقاء الحال كما هو عليه من انتشار للمليشيات الإيرانية في الجنوب السوري إضافة لعدم سعيه إلى ضبط عملية تهريب المخدرات نحو الأراضي الأردنية.

ولكن هذا الأمر لا يبدو مبرراً للأردن لعدم وقف التطبيع فيما لو تفاقمت بشكل أكبر عمليات تهريب المخدرات والسلاح عبر معبر نصيب أو عبر الثغرات على الحدود، فالأردن سبق له خلال السنوات الماضية أن منع بشكل كامل السياحة الدينية للإيرانيين إلى المزارات والأضرحة التي يعتبرها الشيعة “مقدسة” في منطقتي مؤتة والمزار بالجنوب الأردني[1]، وذلك بسبب موقف عمّان من إيران المشهورة باتخاذ المزارات مقدمة للتغلغل في المجتمعات العربية، وهو ما قطعه الأردن بشكل كامل على الرغم من واردات السياحة التي قد تقلل من أثر الضائقة الاقتصادية الشديدة التي مر خلال السنوات الماضية، ومثل هذا الحال يمكن أن ينعكس على المشهد في سوريا بالوقت الحالي، فالأردن ربما يضع الاعتبارات الأمنية قبل الاعتبارات الاقتصادية التي يمكن تعويضها من دول خليجية سبق أن وقفت بجانب عمّان لاسيما السعودية التي تتشارك مع الأردن الهواجس نفسها من المليشيات الإيرانية.

الهواجس الأردنية من الانتشار الإيراني في الجنوب السوري لم تحظَ بأي اهتمامٍ أو سعيٍ من قبل نظام الأسد للحد منها أو تخفيف التوتر، بل إن عضو “مجلس الشعب” التابع للنظام “خالد العبود” اتهم الملك الأردني بأنه “ساهم في الفوضى في سوريا”، وأن الموقف الأردن الرسمي يعاني من “أزمة تقدير للموقف، فهو غالباً ما يقع في مطب تقديراته الخاطئة، والتي ترتد وتنعكس عليه سلباً، خاصة تلك المواقف التي تتعلق بأمنه ووجوده واستقراره ومصالحه”، كما اتهمه بأنه “أول من أساء لحلف طهران – دمشق – بيروت، بوصفه هلالاً شيعياً”، مدعياً أن الأردن “شكّل منصة عدوان خطيرة على سوريا، خاصة عندما قام بالدور المطلوب منه لحصار سوريا والسماح لآلاف الإرهابيين بالدخول إليها”، حسب زعمه.

كل ذلك يقودنا إلى نتيجة واحدة وهي أن نظام الأسد لا يُلقي بالاً للمخاطر التي تهدد أمن الأردن، فهو وإن كان بحاجة للتطبيع معه؛ إلا أنه لا يستطيع التخلي عن تجارة المخدرات رغم الكثير من الحالات التي يعلن فيها عن ضبط مهربين في وقائع أشبه ما تكون بالمسرحيات، فهو حول سوريا بالتعاون مع حزب الله إلى جمهورية للكبتاغون ومركز أساسي للتصدير إلى العالم عبر معابر مختلفة تعد الأردن أساسية فيها، فهل تدفع تلك الوقائع القيادة الأردنية إلى تغيير مواقفها بشأن الانفتاح نحو نظام الأسد المرتبط ارتباطاً وثيقاً بالنظام الإيراني؟.


[1] وزير الأوقاف الأردني لـCNN بالعربية: رفضنا 3 طلبات إيرانية لفتح باب السياحة الدينية.. ولن نسمح بـ”حوزة” في المزار، الرابط: https://cutt.ly/IJa8yvE

مقالات الكاتب

مساعد باحث في مركز الحوار السوري، يحمل إجازة في الأدب العربي من جامعة الفرات السورية، عمل كاتباً وصحفياً ومدققاً لغوياً لعدة سنوات في العديد من المواقع والقنوات الإخبارية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى