حضور الانتماء الديني لدى المراهقين في شمال غرب سوريا

عقب اندلاع الثورة السورية لم يتوقف النقاش بين الباحثين عن العلاقة التي تحكم الانتماء لدى السوريين، بل تعدى النقاش إلى دراسة الأولوية بين الانتماءات، فمنهم من يرى أولوية الانتماء الوطني، وآخرون يذهبون إلى حضور الانتماء الديني، وغيرهم يرجح الانتماء العرقي، على الرغم من وجود شبه إجماع على وجود هذه الانتماءات أو غالبيتها في العقل الجمعي السوري.

ولكن هذه الانتماءات تتفاوت من شخص لآخر، ومن بيئة لأخرى، ومن زمان إلى زمان، كما يرى محمد أمين معلوف الذي يقول: “يوجد في كل عصر أناس يعتبرون أن هناك انتماءً واحداً مسيطراً يفوق كل الانتماءات الأخرى، وفي كل الظروف إلى درجة أنه يحق لنا أن ندعوه هويّة، هذا الانتماء هو الوطن بالنسبة لبعضهم، والدين بالنسبة لبعضهم الآخر، لكن في الحقيقة لا يوجد انتماء يسود بشكلٍ مطلق، فحيث يشعر الناس أنهم مهدّدون بعقيدتهم يبدو أن الانتماء الدينيّ هو الذي يختزل هويّتهم كلها، ولكن لو كانت لغتهم الأم ومجموعتهم الإثنيّة هي المهددة لقاتلوا بعنف ضد إخوتهم في الدين”.

مع تقدم الثورة، وخروج مناطق عن سيطرة نظام الأسد، أثيرت تساؤلات عدة حول تأثير ذلك على الانتماء، سواء لجهة تأثير الجهات الحاكمة، أو لجهة تأثير المكان، خصوصاً لدى شريحة المراهقين الذين نشأوا وترعرعوا خارج سيطرة هذا النظام، مع الأخذ بالاعتبار أن الانتماء في مرحلة المراهقة يكون أكثر إلحاحاً، لأنّ المراهقة مرحلة انتقاليّة مهمّة في حياة الإنسان، ومؤثرة في مستقبله.

إلى جانب ذلك، أظهرت أحداث الثورة حضور “الانتماء الديني” لدى الشريحة الأكبر من السوريين الذين شاركوا فيها، الأمر الذي طرح تساؤلات عن مدى حضور هذا الانتماء، خصوصاً في المناطق المحررة حالياً.

تمثل إدلب حالياً عينة تمثيلية عن سوريا، من جهة وجود السوريين فيها من مختلف المناطق بعد موجات التهجير القسري التي قامت بها روسيا ونظام الأسد بحق المدنيين الرافضين لحكمه، وبالتالي فإن التعرف على واقع الانتماء الديني لدى المراهقين فيها، قد يعطي مؤشرات حول مآلاته في المستقبل.

واقع الانتماء الديني لدى المراهقين في شمال غرب سوريا:

للتعرف على واقع الانتماء الديني كان لابد من التوجه إلى بعض المراهقين ومحاولة استكشاف واقع هذا الانتماء لديهم، بما قد يعطي ولو مؤشرات عن هذا الواقع.

في تعريفهم لأنفسهم، يبرز الانتماء الديني بشكل واضح على عينة من المراهقين في إدلب. تقول إحدى المراهقات في تعريفها لنفسها: “إنسانة مسلمة من المحرر، ولا فرق أن أكون سورية أم لا”. كذلك يعرف مراهق نازح نفسه: “مسلم من ريف حماه”، وتعرف أخرى نفسها بأنها: “فتاة مسلمة تنتمي لسوريا”.

في هذه النماذج الثلاث يبدو واضحاً حضور الانتماء الديني لدى المراهقين في تعريفهم لأنفسهم. وهنا يمكن الإشارة إلى عدة نقاط: أولها؛ أن الانتماء الديني مقدم على الأقل في التعريف على الانتماء الوطني، وإن كان الانتماءان حاضران. ثانيها؛ الجمع بين الانتماءين فيه دلالة واضحة على أن العقل الباطن للمراهق لا يرى تعارضاً بينهما.

لا يظهر الانتماء الديني في تعريفات المراهقين فحسب، بل يبدو الأمر واضحاً وجلياً عند سؤالهم عن القدوات، حيث تشير إجابات هذه العينة الصغيرة إلى حضور الشخصية الدينية ممثلة بالنبي صلى الله عليه وسلم بشكل مجمع عليه. كل ذلك يشير إلى أولوية الانتماء الديني بغض النظر عن نسبة المصداقية في التعبير عن هذا الانتماء من خلال السلوك.

العوامل المؤثرة في الانتماء الديني لدى المراهقين في شمال غرب سوريا:

يبين لنا محمد أمين معلوف أثر عامل السياق والبيئة الاجتماعية في تشكيل الانتماء لدى الأفراد؛ فقد يكون الانتماء للدين هو الأولى لبعضهم، بينما يكون الانتماء للمنطقة أو للعرق هو الأولى لبعضهم الآخر. ويلحظ معلوف أن عنصر “التهديد أو الخطورة” له تأثير تحريضي على الانتماء؛ فعندما يتعرض أي انتماء للتهديد، يتولد لدى الفرد ردة فعل عكسية تدفعه للتمسك بهذا الانتماء والدفاع عنه حتى ولو لم يكن ذا أولوية قبل هذا التهديد.

 هذا الأمر ربما يبدو منطقياً، وفي ذات الوقت قد يدعو للحيرة! لماذا؟

يبدو منطقياً للأسباب التالية:

  • أن هذه المنطقة متدينة بطبعها، ويغلب عليها المذهب السني، وحتى المهجرين الذين قدموا إليها هم من نفس الدين والمذهب،
  • التوجس من الغزو الفكري المتمثل بالمذهب الشيعي القادم مع الغزو الإيراني لسوريا.
  • يشكل الدين السور الذي يحيط بمشاعر الأفراد، فيعتمدون عليه في إضفاء الرضا بما يجري حولهم من أهوال تدعو لفقد التوازن النفسي والعقلي، وربما الانتحار!
  • الدور المؤثر الذي يلعبه رجال الدين من خلال خطب الجمعة، والدروس، وحتى في المناسبات المختلفة.
  • المعاهد الشرعية وتحفيظ القرآن الكريم التي انتشرت بشكل كبير في المحرر، فهناك في إدلب وريفها إضافة لكلية الشريعة أكثر من خمسين معهداً من مشارب متنوعة، مع التنويه إلى دور المعاهد الشرعية الداخلية والتي تتراوح بين خمسة إلى سبعة معاهد، والتي تستهدف الطلاب في بداية عمر المراهقة، وتتابعهم في كل شؤونهم، إضافة إلى معاهد وحلقات تحفيظ القرآن المنتشرة في كل المساجد.
  • النمط الديني الذي ظهرت به “حكومة الإنقاذ” في شمال غرب سوريا، مما جعل الانتماء الديني يتقوّى، على حساب الانتماء الوطني الذي تشوبه تهمة القومية.
  • ردة فعل الناس من ضعف الاهتمام بالتربية الدينية في زمن نظام الأسد، مما جعلهم أكثر حرصاً على إظهار هذا الاهتمام بالانتماء الديني.

بمعنى آخر؛ تدفع العوامل الذاتية المرتبطة بالأشخاص، وكذلك العوامل المرتبطة بطبيعة الدين الإسلامي الذي يتضمن عقيدة وشريعة، إلى جانب العوامل الاجتماعية كالأسرة والمدرسة ونمط الحكم القائم، فضلاً عن العوامل التاريخية والتربوية، نحو أولوية الانتماء الديني لدى هذه الشريحة.

أما لماذا يدعو للحيرة؟

 فإننا نجد نسبة من المراهقين ملتزمون فعلاً، وأعلنوا عن انتمائهم للدين الإسلامي، بينما لا يظهرونه في سلوكياتهم، وذلك لأن عوامل كثيرة تتحكم بالمراهقين، كحالة التفكك الأسري التي يعيشونها بسبب التهجير، وعدم ربط الكثير منهم بين السلوك وبين الانتماء، فيرى أن الانتماء شيء والسلوك شيء آخر، وهو قضية شخصية لا علاقة لها بالموقف تجاه القضايا العامة.

بالمجمل، إن ما تقدم يعطينا مؤشرات عن واقع الانتماء الديني لدى شريحة من شابات وشباب السوريين، والذين سيقع على عاتقهم بناء سوريا المستقبل، ولعل ذلك يدفع إلى مزيد بحث للتعرف عن كثب عن واقع هذا الانتماء وانعكاساته على سلوك الأفراد، بما يساعد في وضع الخطط والرؤى المناسبة التي تستطيع توظيف هذا الانتماء في دعم الانتماء الوطني الذي يبدو أن دونه عقبات تتطلب وقتاً طويلاً لتجاوزها.

مقالات الكاتب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى