التفاوت الطبقي.. أحد تداعيات الصراع في سوريا

تبرز في المناطق الخاضعة لنظام الأسد مظاهر الفقر بشكل صارخ، فيما تقابلها مظاهر الرفاهية والبذخ والترف، الأمر الذي يُظهر التفاوت الكبير بين الطبقات الاقتصادية في زمن الحرب وما بعد الثورة، ففي بعض الأحياء في دمشق يقضي البعض أوقاته في المطاعم والحانات، منفقاً في ليلة واحدة ما يفوق راتب أسرة موظف لأشهر، وتمر في طرطوس واللاذقية مواكب السيارات الفاخرة التي تصل قيمة السيارة الواحدة فيها مئات الملايين، ولم يعد المشهد مستغرباً، فقد باتت أنظار الناس تتعلّق  بسيارات  الشحن الكبيرة التي تحمل على ظهرها أحدث موديلات السيارات وأفخرها، رغم الحصار المزعوم على سوريا.

كانت هذه الفجوات الطبقيّة أقل وضوحاً وتأثيراً في الماضي لوجود طبقة وسطى ذات حجم وتركيز كبير، الأمر الذي يشكل توازناً في المجتمع، ولكن مع تلاشي هذه الطبقة خلال العقد الماضي، وانحدارها بالغالب إلى الطبقة الفقيرة وشهود المجتمع السوري ظهور طبقة جديدة من أثرياء الحرب ومترفيها توسّعت الهوة بشكل كبير بين طبقات المجتمع.

لا يخفى على الجميع أن هذا التفاوت موجود في جميع أنحاء العالم، ولكن وجوده في بلد يرزح أكثر من 90% من سكانه تحت معدل الفقر[1] يثير الكثير من التساؤلات، خاصة مع ظهور فئة جديدة من الأغنياء وتفشّي مظاهر الثراء الفاحش الذي يبدو على أشخاص لا يملكون المؤهّلات التي تجعلهم يستحقونها وغياب المسائلة عن مشروعية هذه الثروات.

يستعرض هذا المقال المظاهر المتناقضة التي تشهدها دمشق ومناطق نظام الأسد عموماً في ظل وضع اقتصادي صعب خلّفته حرب دامية لم تنته آثارها وأحداثها بعد.

مظاهر ومشاهدات من تناقضات الواقع في سوريا:

منذ عام 2019 ومع توقف المعارك حول العاصمة دمشق، بدأت الحفلات والمهرجانات الغنائية تعود لسوريا[2]، حيث أقيمت عدة حفلات لمطربين وفنانين قبلوا دعوات نظام الأسد الذي خصّص مبالغ مالية لا يُستهان بها ليؤكد أن الأمور عادت لطبيعتها، وقد لبّى العديد من الفنانين الأكثر جماهرية هذه الدعوات وقدموا إلى سوريا ليعلنوا دعمهم لنظام الأسد وبشكل واضح.

وبينما تتصدر سوريا قائمة الدول “الأكثر بؤسا” في العالم[3]، ومع عجز حكومة نظام الأسد عن التدخل لوقف الانهيار الاقتصادي الحاصل تُقام المهرجانات الاحتفالية الصاخبة مثل مهرجان قلعة دمشق وحلب وغيرها، ومما يثير الاستغراب هو تدافع الناس على شُبّاك التذاكر وسط حالات إغماء للحصول على تذكرة[4] تبلغ قيمتها راتب شهرين حسب متوسط الرواتب والأجور في سوريا، و قد تصل تكلفة تذكرة حفلات أخرى إلى ما يقارب 500 ألف ليرة سورية [5]، يستطيع المراقب للوضع تفسير هذه المشاهد برغبة شريحة من الشعب السوري الهروب من الواقع المأساوي الذي يعايشونه في حياتهم ,ولمحاولة  اثبات أنهم لايزالون يواكبون صخب الحياة في البلاد الأخرى[6].

في مشهد آخر يظهر مقطع فيديو تداولته الصفحات الإعلامية  لأحد شبيحة نظام الأسد في مشهد آخر تزخر مواقع التواصل بإعلانات عن مزادات لبيع السيارات الفارهة، فعلى سبيل المثال ظهر أحد شبيحة نظام الأسد في مقطع فيديو خلال مزاد علني مبتهجاً لفوزه بسيارة BMW الفاخرة، بمبلغ قدره 400 مليون ليرة سورية، أي ما يُعادل تقريباً 92 ألف دولار أمريكي بحسب التسعيرة الرسمية للبنك المركزي السوري ذاك الوقت، يتزامن ذلك مع إعلان انتشر في موقع موالٍ لنظام الأسد حول مزاد علني يُقام لبيع سيارات موديل 2023 في صالة الجلاء في منطقة المزة، في الوقت نفسه يثير هذا الأمر سخرية المعلقين وتساؤلاتهم عن كيفية دخول هذه السيارات في ظل سريان قانون قيصر والعقوبات الاقتصادية المفروضة على نظام الأسد[7].

في يعفور المنطقة الريفية التي تبعد عن العاصمة دمشق عدة كيلومترات، والتي كانت قبل الثورة تجمعاً لمزارع وفلل الأثرياء غدت المنطقة بعد الثورة بديلاً عن بيروت بالنسبة لكثير من محبي البذخ وحياة الصخب، هنا عالم مختلف عن العالم الحقيقي الذي يعيشه السوريون، حيث يستمتع الناس بحياة مختلفة داخل قاعات فاخرة، حيث يُمارسون طقوس الرفاهية بكل أشكالها في صالات للأفراح والاحتفالات، ويدفعون مبالغ تكاد تصل إلى أرقام أقرب للخيال بالنسبة لفقراء هذا الشعب[8].

أمّا في احتفالات عيد الميلاد ورأس السنة فتغدو مطاعم ومقاهي دمشق محجوزة بالكامل وتغلق معظم مطاعم وفنادق الخمس نجوم حجوزات حفل رأس السنة قبل نحو شهر من بدايته، ولا يحصل من تأخر في الحجز على مكان له بين الساهرين، أما في حي باب شرقي الشهير في دمشق، والمعروف بكثرة الحانات والنوادي والمطاعم، تمتلئ الأماكن في أيام العطل حتى أنّك قد تحتاج إلى الحجز مسبقاً فيها، حيث تبدأ الأسعار فيها للفرد الواحد من 000 150 إلى 290,000 ليرة سورية، ما يعادل تقريباً 20 دولاراً أمريكياً[9].

وكأنَّ سوريا باتت فجأة سوقاً سوداء كبيرة تجد فيها ما تشاء في حال كنتَ تملك مالاً كافياً، فقد تم بيع أوّل دفعة من إصدارات هاتف شركة “آبل” الجديد بعد فترة قصيرة من الإعلان عنه من قبل شركة تابعة لأحد المسؤولين المقرّبين من أسماء الأسد حتى قبل نزول هذه الأجهزة لمعظم المتاجر العالمية الشهيرة[10].

كل هذه المظاهر عمّقت الفجوة الكبيرة بين أغنياء وفقراء سوريا بين مشهدين متناقضين، فهنا حياة الفقراء حيث طوابير طويلة في سبيل الحصول على رغيف الخبز، وفي مكان آخر من هذه البلاد طوابير أخرى يسعى فيها محدثو الثروة للحصول على الإصدار الأحدث من الهواتف الذكيّة.

مظاهر الفقر والبؤس

وفي المقابل، انتشرت مظاهر الفقر في مناطق نظام الأسد بشكل كبير حتى أصبحت تمتد إلى قلب العاصمة دمشق التي لطالما بقيت محافظة على صورة أكثر اعتدالاً من مدن أخرى، فقد شهدت دمشق عدة حالات عن  ترك الاطفال عند أبواب المستشفيات وبجانبهم رسائل اعتذار مؤثرة بسبب العجز عن تأمين لقمة عيشهم[11]، وقبل ذلك تم رصد مشهد لشيخ يتناول طعامه من بين القمامة[12] مع انتشار كثير من حالات بيع الأعضاء في سبيل تأمين الرزق، حتى غدت مشاهد البحث في حاويات القمامة من المشاهد المعتادة لرجال ونساء وشيوخ علّهم يجدون ما يسدون به رمقهم وجوعهم، أما إعلانات بيع الكلى والكبد فتستطيع أن تجدها وبشكل علني على الجدران العامة ومواقع التواصل الاجتماعي[13].

وبين حين وآخر، تضجّ مواقع التواصل الاجتماعي بمظاهر صادمة ومؤسفة جديدة ما هي إلا انعكاس بسيط عن الوضع المأساوي الذي آلت له غالبية الناس، فبعد أن تهجّر الكثير من منازلهم ولم يسعهم حتى تأمين قيمة الإيجارات الخيالية في المدن انتشرت ظاهرة النوم في الحدائق والطرقات لمن لا يملك مأوى، حيث يستطيع كل زائر لدمشق مثلاً أن يلحظ الحدائق العامة وقد أصبحت ملجأً للعشرات من العائلات التي لا مأوى لها في ظل تجاهل من حكومة نظام الأسد لهذه المعاناة[14].

وفي مظهر آخر من مظاهر البؤس والفقر أقبلت عدة نساء إلى امتهان مهنة النبش في مكب النفايات في سبيل تحصيل ما يمكن بيعه من خردة وأوراق وكرتون أو بلاستيك. كل هذه القصص وغيرها تعكس مأساة الناس، وتشكل تحدياً جديداً لسوريا لم تعهد مثله من قبل[15].

أما في الحياة اليومية للسورين في الداخل، فقد كثرت المنشورات في الصفحات الاجتماعية السورية في هذه الأيام التي تسعى لتقديم الوصفات والبدائل للوجبات الغذائية ذات التكاليف الأقل، مثل البرغل والأرز والبطاطا المطهية والمعكرونة مع تجاهل المواد الغذائية ذات التكلفة العالية، مثل اللحوم والفواكه ومنتجات الألبان والخضراوات، وبحسب شهادات أصحاب محال اللحوم، فإن أغلبية الناس قد عزفت عن شراء اللحوم، أو لربما قد تشتريه لمرة واحدة خلال عدة أشهر [16].

في الشتاء تبرز المعاناة الأكبر لأهالي سوريا، فقد غدت وسائل التدفئة لأغلبية السوريين شبه معدومة، واضطر غالبية السوريين إلى اللجوء إلى استخدام الحطب للتدفئة، الذي ارتفع سعر الطن الواحد منه إلى مستويات تصل إلى أربعة ملايين و200 ألف ليرة سورية أي ما يعادل 300 دولار [17]، والذي يعادل دخل موظف سوري عدة أشهر. يأتي هذا إلى جانب انقطاع الكهرباء الذي يصل في بعض المناطق إلى عشر ساعات متتالية مقابل ساعة أو أقل، بينما تتمتع المناطق التي يقطنها مسؤولو نظام الأسد بالكهرباء معظم ساعات اليوم.

وتزيد أزمة وقود السيارات من تعقيد حياة السوريين في مناطق نظام الأسد، حيث يقتصر تخصيص الوقود الشهري للسيارات الخاصة على 80 لتراً فقط. وفي المقابل، يصل تخصيص وقود مركبات النقل العامة إلى 300 لتر شهرياً، وهذا ما يسبب حالة من الشلل التام في المواصلات[18]، وصار من المألوف لدى الناس استخدام سيارات السوزوكي أو التوك توك للوصول إلى منازلهم وجامعاتهم ومدراسهم، بينما تمتلئ مركبات المسؤولين وأغنياء الحرب بمادة الوقود دون انقطاع.

أرقام وإحصائيات حول الوضع المعيشي في سوريا:

وصلت موجة ارتفاع أسعار السلع إلى نسب تتراوح بين 200 و500 في المائة خلال عام واحد مع استمرار انخفاض قيمة الليرة السورية مقابل الدولار ومع استمرار نظام الأسد بتجاهل الظروف المعيشية للقوى العاملة والزيادة الطفيفة التي أضافها لأجور للموظفين فقد بلغت حاجة الأسرة المكوّنة من خمس أشخاص إلى أكثر من 10 ملايين ليرة سورية، أي ما يعادل 700 دولار تقريباً، بينما يُشكّل راتب الموظف السوري الحد الأدنى للأجور أقل من 2% بالمئة من هذا الرقم[19]. وبحسب برنامج تقييم الاحتياجات الإنسانية فإن 76% من العائلات السورية تعتمد على الاقتراض والاستدانة لسد حاجاتها، وقد باتت المساعدات الخارجية المصدر الرئيسي لتأمين متطلبات حياة الأسرة السورية، سواء كانت من المؤسسات الإغاثية الإقليمية والدولية، والحوالات القادمة من الأقارب والأصدقاء في الخارج [20].

في المقابل وفي تآكل شبه كامل للطبقة الوسطى، تصبح نسبة 17% المتبقية من المجتمع السوري هي الطبقة الغنية، انضمّ إلى الأغنياء التقليديين فيها أغنياء جدد عدد كبير منهم من المسؤولين الحكوميين والحزبيين وضباط الجيش الكبار ومسؤولي المخابرات وحيتان الحرب[21] الذين قد تم إدراج العديد منهم على قائمة العقوبات لوجود أدلة على تورطهم بأنشطة وجرائم غير قانونية، إلا أن هذه الطبقة التي لا تكف عن مشاركة تفاصيل  حياتها اليومية من طعام ولباس وسهرات ورحلات وأجواء رفاهية غير مسبوقة على منصات التواصل الاجتماعي.

أصبحت ظاهرة التفاوت الطبقي جلية وواضحة في سوريا، وفي مشهد بارز ظهرت طبقة أغنياء الحرب الجدد معلنة عن نفسها بشكل صارخ وواضح بينما تغض حكومة نظام الأسد النظر عن ثرواتهم، بل وتتعاون معهم في الكثير من الأحيان. في المقابل يخرج مسؤولو نظام الأسد على وسائل الإعلام متجاهلين هذه المظاهر المستفزة، مطالبين الشعب بالمقاومة والصبر والاستغناء عن الكهرباء والتدفئة والاقتصاد في اللحوم والغذاء، ويبدو أن هؤلاء الأفراد يعيشون بعيداً عن الأزمات المعيشية التي تكتنف حياة غالبية السوريين، فهم لا ينتظرون في الطوابير للحصول على مخصصاتهم من الخبز والشاي والسكر، بل على العكس يبدو أن الحرب نفسها قد فتحت لهم أبواباً جديدة راكموا فيها ثرواتهم في الوقت الذي تراكمت فيه الهموم والأزمات على بقية الشعب السوري.


[8] كيف يعيش أثرياء سوريا؟ موقع مجلة صور، 3/4/2020
[16] المرجع رقم 6
[21] المرجع رقم 8
مقالات الكاتب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى