لماذا استمر تردي الوضع الإنساني بسوريا رغم التطبيع العربي مع النظام وخفوت عقوبات “قيصر”؟

تشهد سوريا عموماً ومناطق سيطرة نظام الأسد بشكل خاص ازدياداً في مستوى تردي الوضع الإنساني والمعيشي، ويتمثل ذلك بضعف القدرة الشرائية لدى المواطنين وعجز معظمهم عن تحصيل اللوازم الأساسية، فضلاً عن الأزمات الحياتية التي يعانون منها بشكلٍ يومي مثل الانقطاع الطويل للكهرباء ونقص المحروقات في ظل موجة البرد.

وإن كانت تلك المظاهر تبدو حالةً طبيعةً موجودة في مناطق سيطرة نظام الأسد منذ سنوات، إلا أنها تفاقمت بشكل ملحوظ خلال الأشهر الماضية، وذلك في ذاتِ الوقت الذي تنفّس فيه النظام الصعداء مع التغاضي الأمريكي عن تطبيق عقوبات قانون “قيصر”، وما نجم عنه من زيادة مستوى التطبيع العربي معه وما صَحِبه من اتفاقاتٍ اقتصادية بينه وبين دول عديدة مثل الأردن والإمارات، فضلاً عن اتفاقية الغاز “العربي”، والتي كان النظام طرفاً رئيسياً فيها إلى جانب الأردن ومصر ولبنان.

وعادةً ما يرجع نظام الأسد وحلفاؤه أسباب تردي الوضع المعيشي وتدهور الأوضاع الإنسانية إلى العقوبات الغربية، خاصة بعد تطبيق قانون “قيصر” عام 2020 وما رافقه من حملةٍ إعلاميةٍ ضخمةٍ من قبل إعلام النظام والإعلام الروسي والإيراني للحديث عن تداعيات هذا القانون، والزعم بأنه سببٌ أساسيٌ في ما شهدته سوريا من تفاقم الأزمات، في محاولةٍ للتغاضي عن الأسباب الموضوعية وراء ذلك خصوصاً تسخير الموارد المتاحة وضخها في الحرب فضلاً عن فقدان نظام الأسد لمعظم موارد البلاد والتي أصبحت بيد الروس والإيرانيين، أو في شرق الفرات لصالح التحالف الدولي والطرف المحلي المدعوم من قبله مليشيا “قوات سوريا الديمقراطية-قسد”.

 ويضاف لذلك الفساد الممنهج الذي ينخر معظم ما بقي من مؤسسات، إضافة لعدم وجود قواعد اقتصادية يمكن البناء أو الاعتماد عليها سوى الاقتصاد المافيوي والذي أصبح جزءٌ كبيرٌ منه يعتمد على تصدير المخدرات، ما جعل سوريا تتحول في عهد الأسد إلى أحد أكبر مصانع إنتاج الكبتاغون في العالم، وفق التقارير الأمريكية[1].

ولكن الآن ومع الانفتاح العربي الملحوظ تجاه نظام الأسد ووجود إدارةٍ أمريكيةٍ لا تعتبر القضية السورية أولوية وتبدو مركزةً على الجانب الإنساني أكثر من السياسي بشأن سوريا بعكس إدارة ترامب التي أقرّت قانون “قيصر”؛ فإن حجج النظام بإرجاع أسباب تردي الوضع المعيشي إلى العقوبات الغربية باتتْ تتضاءل بشكلٍ أكبر، وعلى ضوء هذا الواقع لم تجد حكومة النظام سوى إطلاق الوعود بحل الأزمات، إذ وعدت وزارة الكهرباء في حكومة نظام الأسد السوريين بأن “هذا الشتاء سيكون آخر شتاءٍ قاسٍ”، وذلك في ظل الانقطاع الطويل للكهرباء وعدم وجود محروقات للتدفئة بـالسعر “المدعوم”، إذ إن معظم العوائل لم تحصل سوى على 50 ليتراً؛ أيْ بقدر نسبة النصف من حصتها المخصصة، وهي كمية لا تكفي سوى بضعة أيام، وذلك في ذات الوقت الذي تتوافر فيه المحروقات بالسوق السوداء وبأسعار مضاعفة لا تتمكن العائلة السورية من الحصول عليها في ظل ضعف الدّخل.

ومما زاد الطين بلة أنّ حكومة النظام وبدل أن تخفف من وطأة تلك الأزمات لم تترك سلعة من السلع الأساسية حتى “المدعومة” منها إلا ورفعتها وخاصة الخبز والمحروقات والمواصلات والدواء والكهرباء والاتصالات بنسب تجاوز بعضها حاجز الـ 100 % والـ 300 % خلال العام الماضي، في حين أن رأس النظام بشار الأسد أقر زيادة على الأجور لا تتناسب والواقع المعيشي، ما يعكس عدم وجود قدرة لدى هذا النظام في النهوض بالواقع المعيشي ويؤكد أن مقولة “فاقد الشيء لا يعطيه” تنطبق عليه بشكل حرفي.

يأتي ذلك في وقتٍ تزايدت فيه أعداد شحنات المخدرات التي يتم اكتشافها بعد تهريبها من سوريا، سواء على الحدود الأردنية أو في دول الخليج، ما يدلل على أن نظام الأسد سخّر كل موارده المالية في تجارة المخدرات بهدف الحصول على أرباحٍ سريعةٍ لا يمكن متابعتها ماليًا من قبل الجهات الأوروبية أو الأمريكية، وبالتالي كانت حياة المواطن واحتياجاته وترميم عجلة الاقتصاد آخر همٍّ لدى النظام.

كل تلك المعطيات تقودنا إلى نتيجةٍ واحدةٍ وهي أنّ العقوبات الغربية تبدو عاملاً من عوامل الضغط الاقتصادي على النظام، ولكنها ليست العامل والمؤثّر الأساسي في انهيار الاقتصاد وسوء الأحوال المعيشية للشريحة الأكبر من السوريين في مناطق النظام والتي أصبحت تعيش تحت خط الفقر وتعتمد على المساعدات الإنسانية والحوالات المالية من أقربائها في الخارج، ما يعني أنّ رفع العقوبات عن النظام لن ينتشل السوريين من تحت خط الفقر بقدر ما سيساعد النظام على زيادة ثرواته المالية في ظل منظومة الفساد التي نشأ عليها، كما سيزيد من تعنته السياسي، بل ويشجعه وحلفاؤه على الحلول العسكرية ضد ما تبقّى من المناطق الخارجة عن سيطرته. ومن هذا المنطلق تكمن أهمية حشد المعارضة والناشطين السوريين تجاه منع الانفتاح الغربي على النظام مع التركيز على ضرورة إبقاء العقوبات عليه لمنعه من استثمار نتائج إزالتها بما يخدم مصالحه ومصالح داعميه.


[1] أصدر مركز الحوار السوري في وقتٍ سابقٍ ورقة حول هذا الموضوع بيّنت آثار سياسات نظام الأسد على العامل الاقتصادي بسوريا. ينظر الورقة بعنوان: ” ما بعد قيصر؛ مَن يتحمل المسؤولية عن تردّي الأوضاع الإنسانية والاقتصادية في سوريا؟” الرابط: https://cutt.ly/fUX1PKY

مقالات الكاتب

مساعد باحث في مركز الحوار السوري، يحمل إجازة في الأدب العربي من جامعة الفرات السورية، عمل كاتباً وصحفياً ومدققاً لغوياً لعدة سنوات في العديد من المواقع والقنوات الإخبارية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى