هوس التجميل في سوريا.. تناقضات المرحلة

 تعيش مناطق سيطرة نظام الأسد حالة الحرب والخراب والغلاء وفقدان كل مقومات الحياة، حيث يعتمد السكان فيها معيشياً على حوالات المغتربين، وتشير الكثير من التقارير الصادرة من منظمات عالمية إلى كارثية الوضع الاقتصادي في سوريا الذي يعيش فيه تحت خط الفقر 90 % من السوريين[1]، وتظهر دراسة أخرى أنّ سوريا تتصدّر قائمة الدول الأكثر فقراً بالعالم بنسبة بلغت 82.5%[2]، في وقت يتم الحديث فيه عن أنّ 60 % من السوريين عاجزون عن شراء اللحوم[3].

من جانب آخر، وفي مشهد يدعو للتساؤل، تشهد سوريا ظاهرة جديدة تتمثل بتهافت النساء نحو مراكز وعيادات التجميل في مشهد مناقض لطوابير الخبز والغاز والوقود وطوابير الشباب لاستخراج جوازات السفر، واللافت في الأمر أن الإقبال على هذه المراكز لم يعد مقتصراً على الطبقات الغنيّة، بل بات رواد هذه المراكز اليوم يشملون أيضاً نساء المناطق الشعبية شبه معدومة الدخل، ما يطرح تساؤلات عديدة حول أسباب نشوء هذه الظاهرة ومدى انتشارها وتداعياتها وآلية التعامل مع آثارها.

نظرة عامة على الظاهرة

تنتشر إعلانات مراكز التجميل ومنشوراتها التسويقية في شوارع المدن الخاضعة لنظام الأسد كدمشق وحلب واللاذقية، ولا يكاد يخلو شارع من إعلانات لهذه المراكز، حيث يصل عددها في  دمشق وحدها إلى حوالي 50 مركزاً[4] تتركّز في المناطق الراقية من غير أن تقتصر عليها، حيث تنتشر أيضاً في المناطق الأخرى كقدسيا وجرمانا والمناطق الشعبية.

تشمل الخدمات التي تقدمها مراكز التجميل عدة مجالات (كالفيلر- البوتوكس- عمليات التنحيف والشفط والشد – عمليات الليزر- بالإضافة لجلسات العناية بالبشرة)، ووفقاً لعدة استطلاعات يبدو أنّ أكثر العمليات انتشاراً في سوريا هي البوتوكس والفيلر والبلازما[5].

لا يوجد تسعيرة موحّدة للإجراءات التجميلية بين المراكز والعيادات التجميلية، بل تتفاوت الأسعار بشكل كبير من منطقة لأخرى[6]، حيث تختلف الأجور حسب طبيعة المواد والأجهزة والمواد المستخدمة بالإضافة لشهرة الطبيب وفخامة المركز وموقعه.

وبحسب مصدر طبي في دمشق، فإنّ حقن البوتوكس يتراوح بين 200 إلى 400 ألف ل.س أي ما يعادل 15 إلى 30 دولاراً، أما الفيلر فيختلف سعره حسب نوعيّته، حيث يبدأ من 200 ألف ( 15 دولاراً) للسنتميتر الواحد، وهناك أنواع تتجاوز الـ700 ألف، ما يعادل 50 دولاراً تقريباً[7].

وبالرغم من ارتفاع التكاليف، تقوم شرائح متنوعة من السوريين بإنفاق مبالغ تصل إلى ملايين الليرات شهرياً من أجل تحسين مظهرهم وجعلهم “أكثر جاذبية”، هذا الأمر يثير الكثير من التساؤلات حول كيفية تأمين مثل هذه الأموال لإجراء هذه العمليات في ظل معدل رواتب متدنٍ جداً يصل إلى 150 ألف ليرة أو ما يعادل حوالي 17 دولاراً أمريكياً[8].

وتشهد العمليات التجميلية تنافساً شديداً بين مراكز التجميل وتقديمها لعروض متنوعة وجاذبة، وبحسب شهادات تم الوصول إليها من عدة موظفات في عدد من مراكز التجميل في دمشق فيظهر أنها تستقطب جميع شرائح المجتمع، حتى أولئك اللواتي يفتقرن إلى القدرة المالية الكافية لتحمّل تكاليفها يلجأن لطلب المساعدة من أقاربهن أو إلى اقتراض الأموال من أجل الخضوع لهذه الإجراءات الطبية.

كما تشير بعض  التقارير والمشاهدات إلى ارتفاع الاهتمام بعمليات التجميل من قبل الذكور، حيث يبدو أن هناك زيادة في عدد الذكور الراغبين في الخضوع لهذه الإجراءات وكسر الصورة النمطية، وأصبح بعض الذكور أكثر انفتاحاً على عمليات التجميل للحصول على شكل أفضل وتحسين مواصفاتهم الشكلية، وأقل خجلاً من الحديث عنها كما كانوا في السابق[9]، ويبدو أن رواد هذه المراكز ليسوا فقط من السوريين، بل تشهد أيضاً إقبالاً ملحوظاً وغير مسبوق من الدول المجاورة مثل الأردن ولبنان والعراق، حيث يعزى هذا الإقبال إلى انخفاض تكاليف الإجراءات التجميلية في سوريا بالمقارنة مع البلدان الأخرى، نتيجة تدهور قيمة الليرة السورية.

دوافع الهوس بعمليات التجميل

يُعتبر الإقبال المتزايد على زيارات مراكز التجميل في سوريا ظاهرة اجتماعية، تعكس تغيّرات عميقة في نمط التفكير والسلوك في هذا البلد المضطرب الذي لا يزال يعاني من آثار الصراع، ويبدو أن هناك العديد من الأسباب التي تفسر الإقبال عليها ومنها:

1- البحث عن فرصة زواج 

في عام 2019، احتلت سوريا المرتبة الثالثة عربياً في أعلى معدلات العزوبة بعد لبنان والعراق، ووفقاً للدراسات وصل معدل العزوبة في تلك الفترة إلى 65٪، نتيجة للظروف المعيشية الصعبة[10]، فقد ارتفعت نسبة الإناث مقابل نسبة الذكور في المجتمع السوري، وذلك نتيجة للهجرة والفرار من التجنيد الإجباري ونتيجة للكثير من حالات الفقد والاعتقالات، والإخفاء القسري، وبالتالي أصبحت فرص الزواج محدودة بسبب زيادة عدد الفتيات وتعقيدات ظروف الشباب والوضع الاقتصادي الصعب، كما تزيد العادات المحلية والتحديات المجتمعية من صعوبة مهمة البحث عن شريك حياة، خصوصاً في مراكز المدن، حيث تضع معايير صارمة بالنسبة للشكل والموارد المادية من قبل العريس أو أهله.

هذه الظروف والأعباء النفسية والاجتماعية أسهمت بشكل كبير في الإقبال على عمليات التجميل، والذي يزيد فرص العثور على شريك حياة مستقبلي، أو يساعد على الحفاظ على زوج حالي متذمر، أو حتى الزواج برجل ميسور متزوج يمكن أن يكفي الفتاة احتياجاتها، وبالتالي تسعى الفتيات من خلال هذه العمليات إلى إثبات أنفسهن جمالياً وشكلياً، والظهور بمظهر الفتاة المثالية.

2- زيادة فرص الحصول على الوظائف

لا يمكن مقاربة دوافع هذه الظاهرة أيضاً دون التعريج على الظروف المعيشية الصعبة التي دفعت الكثير من الفتيات إلى ميدان العمل، خاصة وأن الظروف الاقتصادية والاجتماعية في البلاد غيّرت معايير التوظيف من الكفاءة والخبرة والكفاءات العملية والمهارات التقنية، وأصبح التركيز على المظهر الخارجي أساسياً لدى العديد من الشركات وأرباب الأعمال يزيد فرص الحصول على وظيفة، وبهذا تصبح عمليات التجميل وسيلة للحصول على فرصة عمل أفضل وسعياً لتخفيف العبء المالي والاقتصادي عن نفسها وعمّن تعيل[11].

3- محاكاة وسائل التواصل الاجتماعي

من غير الممكن تجاهل دور وسائل التواصل الاجتماعي التي تضخ يومياً سيلاً مستمراً من معايير الجمال الجسدية المثالية، حيث يشارك الأفراد بانتظام صوراً لأنفسهم ولحياتهم اليومية على هذه المنصات، مستخدمين فلاتر إلكترونية تخفي العيوب وتزيد من الجمال، مما يؤدي إلى مقارنات وشعور بالدونية يتم تعويضه بإجراء عمليات تجميل والتحسين من المواصفات الشكلية لمطابقة المعايير الظاهرية للجمال.

وفقاً لرأي أحد أطباء النفس المختصين الذين تم سؤالهم حول هذه الظاهرة في إسطنبول، فقد أشار إلى وجود ظاهرة تسمى “محاكاة القوي”، والتي تنتشر في بعض الثقافات، في هذه الظاهرة تتعرض الفتيات لضغوط اجتماعية وضغوطٍ من أقرانهن، مما يدفعهن للسعي إلى الظهور بشكل يتوافق مع “المعايير الجمالية” المحلية لشعورهن بأنهن مضطرات للاستثمار في عمليات التجميل لتلبية هذه التوقعات.

ويُشير الطبيب النفسي إلى أن انتشار ظاهرة تقليد المؤثرين والأقران من نفس الطبقة الاجتماعية أو الاقتصادية أو من الطبقة الثرية يُعرف في علم النفس بالتحاكي والتماهي مع الأقوياء، وهذا يُشبه متلازمة ستوكهولم الشهيرة، حيث يتمثل بالتحاكي في تقليد الأفعال أو السلوكيات للأفراد أو الجماعات التي تظهر كقوى أو نماذج يُحتذى بها[12].

4- رقابة ضائعة وسوق مزدهر

في الوقت الذي تقوم فيه حكومة نظام الأسد بتنظيم استيراد بعض المواد الأساسية وتقنينه بشدة، مثل حليب الأطفال وبعض المواد الضرورية للصناعات الطبية والصناعية، فإنها تسمح في الوقت نفسه باستيراد البوتوكس التي تُستخدم في عمليات التجميل، مبررة ذلك بأن القطاع الصحي بحاجة إلى هذه المادة لضرورتها في بعض العمليات الجراحية. وهذا يجعل البعض يرى أن الحكومة تستفيد بشكل كبير من هذه التجارة الرائجة[13].

ويبدو أن حكومة نظام الأسد قد أهملت عمليات الرقابة على القطاع الطبي أو غضت النظر عمداً عنها كونها تجارة رائجة تدر الملايين على نظام الأسد وأثرياء الحرب الجدد، وتنشط الوضع الاقتصادي المتدهور في البلاد في سعي لتقديم صورة إيجابية لسوريا كبلد قد تعافى من آثار الحرب، ويسعى لمنافسة سوق التجميل في لبنان وغيره من الأماكن.

 يُمكن القول إن قطاع التجميل في سوريا أصبح سوقاً كبيراً يمكن العمل فيه دون وجود رقابة ملحوظة او اشتراطات لمزاولة المهنة، وفي بعض الأحيان يمارس المهنة ببساطة من حضر دورات تدريبية لعدة أيام فقط في هذا المجال[14].

الجانب القاتم لهذه الظاهرة

لا يمكن تجاهل هذه الظاهرة المستجدة في المجتمع السوري من دون دراسة آثارها وتداعياتها الاجتماعية والنفسية والاقتصادية، خاصة أن هذا القطاع يشهد انفلاتاً من الرقابة وغياب التنظيم، مما ينجم عنه تداعيات كبيرة، ففي الوقت الذي تعاني فيه سوريا من نقص كبير في الكوادر الطبية في اختصاصات هامة كالجراحة الصدرية والعصبية والتخدير، ظهر هناك ميل عام لدى الأطباء إلى الالتحاق بالتخصصات التي تحقق لهم الربح السريع والمؤكد، وعلى رأسها تخصصات التجميل، رغم الندرة والحاجة لاختصاصات أخرى مهمة[15].

كما أنّ الاختصاصات التي لا تزال متاحة مثل طب الأسنان والجلدية بدأت تشهد تحولاً لهذا المجال، وهو ما يعني أن تراجع أعداد الأطباء المختصين الموجودين حالياً بعد تحولهم لسوق  التجميل الذين تضاعفت أعدادهم خلال العامين الماضيين لتزيد عن عدد الأطباء المختصين باختصاصات حيوية أصبحت نادرة اليوم في سوريا.

 من جهة أخرى، أدى غياب الرقابة الصحية الكافية على هذه المراكز إلى دخول العديد من الأفراد والجهات غير المؤهّلة لهذا المجال، وأصبحت عمليات حقن البوتوكس والفيلر إحدى الخدمات المقدمة في صالونات التجميل العادية، ما أدى إلى حدوث أخطاء طبية خطيرة كالحروق والتشوهات وسط عجز الزبائن وعدم قدرتهن على المساءلة واستسلامهن للأمر الواقع.

وقد لاقى استفحال تطفّل غير المختصين على هذا المجال استياء من شخصيات طبية في حكومة نظام الأسد، فقد نبّه أحد الأطباء الاستشاريين في دمشق إلى خطورة هذه الظاهرة وكونها تشوه مفهوم الجمال، إلى جانب غياب الرقابة وإمكانية استخدام مواد رخيصة ذات آثار جانبية[16] ما يؤدي لحدوث العديد من المضاعفات قد تصل إلى حد التسمم أو حتى الوفاة[17].

هذا وتسبّب عمليات التجميل في بعض الأحيان حالات اكتئاب عند الفتيات اللواتي لم يحصلن على نتيجة مرضية أو لم يستطعن التأقلم مع شكلهن الجديد، أو بسبب اختلاف صورتهن عما كان في مخيلتهن، في هذه الحالات يمكن أن يلجأن إلى إجراء عمليات تجميل إضافية متتالية قد تصل إلى حالة هوس مرضية تفضل فيها الفتيات إنفاق أموالهن عليها على حساب تأمين احتياجاتهن الأساسية.

يشير طبيب نفسي مختص تم سؤاله عن هذه الظاهرة[18]، إلى أنّ لهوس التجميل آثاراً سلبية تتعلق بتجاهل القضايا الأساسية والحقيقية التي تؤثر على جودة حياة الأفراد، مثل الأمان والاستقرار الاقتصادي، حيث يؤدي التركيز المفرط على التجميل إلى تشتت الاهتمامات الاجتماعية والابتعاد عن القضايا الهامة، وانعزال الأفراد وضعف مشاركتهم في القضايا الاجتماعية والسياسية.

وعلى الصعيدين الفردي والنفسي، يمكن أن يؤدي هوس التجميل إلى تغيير في هويات الأفراد وانتمائهم، مما ينتج عنه تغيير في سلوكهم وتفكيرهم، وهذا يمكن أن يقودهم إلى الانخراط في حلقة مفرغة من الضغوط والهوس بالمظهر الخارجي والتجميل.

لم ينج الشعب السوري بعد من  آثار الصراع والانهيارات الاقتصادية والاجتماعية التي خلفها، ومع غياب الأفق بحدوث أي تغيير حقيقي انكفأت شرائح من السوريين إلى عوالمهم الخاصة المنفصلة عن الواقع، في محاولة للاقتناع بقدرتهم على التعايش مع هذا الواقع الجديد والبحث عن جوانب السعادة والتغيير والهرب من الصدمات والخسائر التي قد يواجهوها، وتعتبر حكومة نظام الأسد أن مثل هذه التوجهات عند الجيل الناشئ أمر جيد، حيث أن انشغاله بقضايا جانبية سيحقق لها الاستقرار وسيجعلها بعيدة عن أي احتجاجات أو مطالب بإصلاح الواقع المتردي من كافة النواحي.


[2]هكذا انتصر الأسد، العربي الجديد، 23/2/2020
[4] قطاع التجميل يزدهروالأطباء يحذرون، وكالة أنباء آسيا، 18/5/2022
[6] قطاع التجميل يزدهروالأطباء يحذرون، وكالة أنباء آسيا، مرجع سابق.
[8] صحيفة الوطن التابعه للنظام في تقرير لها
[12] أشار لهذه الظاهرة الدكتورالنفسي ملهم الحراكي وتحدث عن متلازمة ستوكهولم الشهيرة المعروفة في علم النفس بآلية التحاكي مع القوي المعتدي identification with aggressor
[16] دكتور نبوغ العوا –انتشار عمليات التجميل في سوريا ” هناك تشويه للجمال في سوريا حيث يتوجه الناس إلى مراكز التجميل الاقل تكلفة والتي تستخدم مواد رخيصة لإجراء عمليات البوتكس أو الفيلر وغيرها”، موقع شام اف ام، 17/5/2022
[18] الدكتور ملهم الحراكي في سؤاله عن الاثار السلبية لعمليات التجميلية
مقالات الكاتب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى