في الذكرى الثانية عشرة للثورة.. صرخة لإدارة الاختلاف قبل إدارة المعركة

في مواجهة منظومة الاستبداد والقمع المتمثلة بحكم الفرد الطائفي المتدثر بعباءة قومية، رفعت الثورة السورية في بداياتها مجموعة من القيم والمبادئ شكلت في مزيجها العفوي دعوة للحرية والحياة، والتي كان من أبرز ثوابتها وأعظم حواملها تجسيدها ومقاربتها الخاصة للتعددية والتنوع والاختلاف بوصفه ظاهرة طبيعية لا يمكن إلغاؤها أو طمسها أو القضاء عليها تحت ذرائع الوحدة الوطنية وشعارات الهوية المقدسة ووحدة المسير خلف الرمز الأوحد إلا بوسائل القهر والإرهاب والقمع.

كانت هذه الفكرة غير المكتوبة شاخصة كأحد حوامل الحراك الشعبي التي واجهت أنصار نظام الأسد واحتكارهم لمعنى الوطنية وتعريف الوطن من بوابة تبنّي أحادية القائد والمسار والأيديولوجيا، كما كانت ماثلة مع حقيقة أخرى هي وجود اتفاق للقوى المجتمعية التي تتبناها على أهداف كبرى كاسترداد الوطن والهوية وبناء دولة العدالة والمؤسسات، لتمثل هذه المبادئ “احترام الاختلاف والتعددية، واسترداد الوطن والهوية”. انعكاساً لحيوية الثورة وعفويتها وما تشير إليه من مستقبل قادم يتوافق مع التنوع السوري الممتد لقرون.

إلا أنه مع تقدّم الوقت، سرعان ما باتت عوامل الاختلاف والتنوع أحد أكثر العوامل ثقلاً وضغطاً على قوى الثورة ذاتها، فما إن مضت الأشهر الأولى وبدأ مد الثورة وخطها يكتسح الجغرافية السورية والأروقة حتى باتت تلك التعددية لدى قوى الثورة آفتها الرئيسية وموطن ضعفها ولعلها أحد أبرز أسباب الانكفاء والتراجع.

حيث برزت العقلية الأحادية التي تحتكر في مضمونها معاني الثورة والوطنية والحقيقة.. الخ، التي ترى أنها وحدها فقط الحق المطلق. من هذا المنطلق أصبح تقديس الذات ومن ثم الجماعة أو التيار منطلقاً يقضي على متطلبات الحوار ومناخه والاستعداد له، ثم ليتحول هذا التعصب للرأي إلى دوافع غير مرئية مباشرة تغذي حالة التجاذبات الحادة والانقسامات الجوهرية ولتصبح محفزاً لطاقات سلبية تجهد في تصيُّد الأخطاء وإلقاء التهم وصولاً للممارسة الأساسية التي انتهجها البعث في التخوين واحتكار الثورية والوطنية.

لقد أعاقت طرقنا في التعاطي مع الاختلاف والتنوع مدفوعة بتشنج السياق والواقع الصعب الذي يسود حياتنا إمكانات مرور أي حدث مستجد دون زيادة الشرخ في مجتمع الثورة والمعارضة، على الرغم من أن الكثير من الأحداث والمستجدات تأتي في طبيعتها حاملة إمكانية تعدد وجهات النظر في إنتاج الرؤى والتصورات وما يتبعها من سلوك بفعل عوامل كثيرة كاختلاف الخبرات والتجارب السابقة أو زاوية الرؤية أو الانفعالات العاطفية ..الخ.

شواهد كثيرة من تلك الحالات لا تكاد ترقى لموقف مصيري كالمواقف المرتبطة بمسار الحل السياسي، إلى جانب ما ارتبط بالأموات مثلاً كوفاة المفكر جودت سعيد ووفاة الداعية منيرة القبيسي، حيث أدى الاختلاف في النظر إلى الأول ونتاجه، وتبرير أفعال الثانية والتعزية بها إلى حرب طاحنة بين معسكرات متبدلة تهاجم وتسقط وتتهم وتخوِّن؛ في مثال آخر جاء حراك السويداء المناهض لنظام الأسد ليشعل بدوره موجة من الصراعات بين من اعتبرها ثورة وجزءاً ممتداً من حراك السوريين، وبين اعتبرها حراك جياع لا يرقى للالتحاق بركب الثورة.

في آخر هذه المواقف جاءت قضية اتصال زوجة رأس نظام الأسد بالطفلة السورية شام الشيخ محمد بعد وصولها الإمارات، فعلى الرغم من فجاجة الموقف وأنه استغلال رخيص للحالات الإنسانية من نظام الأسد كما دأب دائماً، إلا أنها أدت إلى انقسامات جديدة بين جمهور الثورة السورية؛ بين من حمّل المسؤولية لمن ناصر قضيتها أصلاً وبين من تضامن معهم لتنتهي هذه المجادلات غالباً إلى الوصول للاتهام بالتخوين والعمالة والغباء.

يظهر هذا الخلل في فهم مفهوم الاختلاف، آثاره على السوريين لتفعل ما لم تستطع مليشيات الأسد وحلفاؤه من فعله في نفوسهم، وتعكس مدى الحاجة لإدارة الاختلاف والتعايش معه. يدعونا كل ذلك ونحن نحيي ذكرى الثورة الثانية عشرة لإحياء فلسفتها الأولى، أدركناها في ذلك الوقت أم لم نفعل واتفقنا على ذلك أم اختلفنا فليس ثمة خلاف علني على الأقل من أن الثورة منهجية للتغيير وانتصارها يكمن في مدى قدرتها على ترسيخ طرق تفكير مختلفة بداية قبل السلوكيات والمنجزات الأخرى وهو ما يدعونا بالضرورة لامتلاك مهارات إدارة الاختلاف والسعي للبحث عن مقاربات جديدة للتعاون بدلاً من الصراع  قبل إدارة المعركة والمواجهة مع منظومة الاستبداد والمليشيات التي تريد طمسنا وبناء سوريا المتجانسة كما يريدون بلون واحد.

مقالات الكاتب

باحث مساعد في وحدة التوافق والهوية المشتركة يحمل إجازة في الحقوق وحاصل على شهادة الماجستير في القانون العام، ناشط في المجتمع المدني والمجال الحقوقي وقدم عدداً من البرامج التدريبية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى