تحديات الاستجابة العاجلة لنتائج “زلزال القرن” في مناطق الشمال السوري

بعد طول انتظار دخلت المساعدات الإنسانية الطارئة إلى المناطق المنكوبة في الشمال المحرر، ولكن ضعف السلطة المركزية وتعدُّد السلطات وحجم الكارثة المهول الذي تعجز دول متقدمة في التصدي له، إضافة إلى ضعف حوكمة مؤسسات الحكم المحلي وضعف إمكانياتها، أدى إلى نتائج متوقّعة من سوء الإدارة وسوء التوزيع وسوء تقييم الاحتياج.

كان أهم نتائج “زلزال القرن” الذي وقع بتاريخ 6 شباط 2023 وأصاب مناطق في تركيا والشمال السوري، حجم الدمار الذي خلّفه وعدد الضحايا والإصابات التي وقعت، مما سبب عبئاً مضاعفاً على المؤسسات المحلية الخدمية المنهكة أصلاً بفعل تأثير مخلفات الكوارث الأسدية، وكان على هذه المؤسسات مواجهة التحديات التي نشأت وستنشأ جراء الزلزال المدمر الذي ضرب المنطقة، وبالتالي كان لا بد من وضع خطة طارئة وعاجلة في مواجهة التحديات العاجلة التي لا تحتمل التأخير، إضافة لوضع خطة محكمة في مواجهة التحديات المتراخية والتي قد تمتد آثارها لفترة أطول.

لذلك يمكن أن نستعرض أهم التحديات العاجلة التي برزت بعد الزلزال لمعالجتها وتداركها بالسرعة الممكنة:

توثيق الوفيات والمفقودين:

بعد وقوع الزلزال المدمر واكتشاف الناس لحجم الدمار الذي لحق بالمنطقة وانهيار المباني فوق رؤوس قاطنيها، سارع الناس إلى إنقاذ الأشخاص العالقين تحت الأنقاض مع غياب شبه تام للمؤسسات الخدمية التي لا تملك أصلاً المعدات الخاصة بعمليات الإنقاذ عدا الدفاع المدني الذي سارع إلى القيام بعمليات إنقاذ فاعلة، وكان دوره محورياً بذلك، فهو يمتلك خبرة كبيرة اكتسبها من خلال إنقاذ المواطنين الذين أصابتهم كوارث الأسد وحلفائه.

وبعد الانتهاء من عملية انتشال الضحايا من تحت الأنقاض، كثيراً ما كانت تتم عملية دفنهم على الفور بمبادرة شعبية من الجيران والأقرباء أو أبناء البلدة الواحدة، حتى إنه كان يتم دفن عائلات بأكملها، وفي كثير من الأحيان كان يتم دفن أشخاص لم يتمكن أحد من التعرُّف عليهم لتشوّه الجثة أو تمزقها أو عدم معرفة أحد بها، وكانت عملية الدفن تتم مع غياب شبه تام للجهات المعنية التي عجزت عن القيام بأي دور نتيجة هول الكارثة، إضافة لحالة فقدان الأشخاص أثناء إسعافهم من مكان انتشالهم إلى النقطة الطبية في المحرر أو تركيا، فنشأت لدينا حالة الفقدان، بمعنى عدم معرفة مصير الشخص ميتاً كان أم حياً، أو معرفة مكان وجوده في حال حياته، وخصوصاً الأطفال.

ويمكن القول إن غياب العمل المؤسساتي، وخصوصاً أثناء عملية الدفن ومعالجة المصابين وغياب الجهة الفاعلة في عملية التوثيق زاد وفاقم هذه المشكلة التي ما زالت آثارها ممتدة إلى الآن.

ولا يخفى على أحد الدور الذي لعبته وسائل التواصل الاجتماعي في التخفيف من هول هذه الكارثة، ولكن يبقى أثرها محدوداً وخصوصاً أن القائمين على هذه الوسائل أشخاص لا مؤسسات، حيث تمارس نشاطها من خلال المجموعات على الفيس بوك أو قنوات التلغرام أو الواتس آب بطريقة عشوائية غير منتظمة، فقد كان بإمكان أي شخص أن يتواصل مع الجهة أو الشخص القائم على هذه الصفحة أو المجموعة وإرسال صورة المفقود ومعلومات عنه، ومن ثم يتم نشر صورة المفقود ومعلومات عنه على وسائل التواصل دون أي تحقّق من الشخص المرسل أو المرسل إليه، وقد تخلل هذه الطريقة الكثير من الأخطاء والمساوئ.

إن وجود جهة شرعية مكلفة بمتابعة موضوع توثيق مجهولي الهوية والمفقودين ضرورة كبيرة تترتب عليها نتائج قانونية وشرعية، لذلك لا بد للسلطات القائمة أن تعير هذا الموضوع اهتماماً خاصاً.

إزالة الأنقاض وتدارك البنية التحتية:

تعتبر إزالة الأنقاض التي خلفها “زلزال القرن” أحد أهم النتائج الزلزالية التي تعاني منها المجالس المحلية في المناطق المنكوبة، حيث تقدر الأنقاض بآلاف وربما عشرات الآلاف من الأطنان.

فالمجالس المحلية تفتقر للآليات التي ستزيل هذه الأنقاض، إضافة للأماكن التي سيتم تجميع هذه الأنقاض وإعادة معالجتها.

تعتبر عملية إزالة الأنقاض من أهم العمليات في إعادة الحالة إلى ما قبل حدوث الزلزال، فنحن لا نتحدث عن عملية إعادة الإعمار التي هي بالأصل متوقفة بسبب الحرب التي شنها نظام الأسد على الشعب، ولكن المقصود هو إزالة الأنقاض وإعادة البنية التحتية إلى حالها قبل حدوث الزلزال، فعملية إعادة الإعمار تحتاج شروطاً لبدئها، كتوقف الحرب ووجود إجماع دولي على إعادة الإعمار وغير ذلك.

إدارة توزيع المساعدات بطريقة عادلة:

بعد وقت ليس بالقصير دخلت المساعدات الإنسانية لإغاثة السوريين في المناطق المحررة، لكن دخول هذه المساعدات كان بعد مضي المدة التي كان بالإمكان إنقاذ عالقين على قيد الحياة تحت الأنقاض، لذلك تعرضت الأمم المتحدة لنقد شديد بسبب تأخرها وبيروقراطيتها القاتلة التي أخّرت دخول المساعدات إلى المناطق المنكوبة، وكانت سبباً آخر في زيادة معاناة السوريين و آلامهم، وبعد دخول هذه المساعدات ظهرت مشكلة جديدة، تتمثل بمن سيستلم هذه المساعدات وكيفية توزيعها على المتضررين، وما هي المعايير التي يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار في تقييم الاحتياجات وتوزيع المساعدات، ويكمن التحدي في ذلك أن المنظومة الخدمية من مجالس محلية وحكومة مؤقتة و “حكومة الإنقاذ” لا تملك المعلومات والبيانات أو حتى أدنى خطة للحصول على المعلومات والبيانات والإحصاءات التي بموجبها يتم إحصاء الأضرار والأشخاص المتضررين والأشد حاجة كي يتم استهدافهم بالمساعدات، إضافة لكون الجهات الداعمة والمرسلة للمساعدات لا تصب هذه المساعدات في جهة واحدة، وإنما توزعها وفقاً لتقدير الجهة المكلفة بالتنفيذ دون التنسيق في كثير من الأحيان مع المجالس المحلية التي تقوم بتخديم المنطقة.

يمكن القول إن ما ذُكِر أعلاه يُعتبر من النتائج المباشرة والطارئة للزلزال، والتي تُعتبر أولوية معالجتها ضرورية لمعالجة التحديات الأخرى ذات الآثار على المدى المتوسط والبعيد، ويمكن ذكر بعض هذه التحديات الأخرى على سبيل المثال لا الحصر:

ضبط عمليات الإعمار بمعايير هندسية واضحة:

من المعروف أن الكثير من المنظمات المحلية تسعى لإيواء عدد كبير من قاطني الخيام الذين يعانون حر الصيف وبرد الشتاء من خلال القيام بإنشاء تجمّعات سكانية لقرى بُنيت على عجل من غير دراسة أو رقابة، فقد كانت تتم عملية زيادة التجمعات السكانية وخفض كلفة الوحدة السكنية الواحدة لبناء أكبر عدد ممكن من الوحدات السكنية، وكان كل ذلك يتم على حساب نوعية وجودة الوحدة السكنية التي تم بناؤها، حيث لم تخضع هذه العمليات لأي دراسات مركزة أو رقابة عليها من المختصين، إضافة إلى استغلال الكثير من التجار لحالة الحرب والفوضى وقيامهم بعملية إعمار الشقق السكنية دون مراعاة الضوابط الهندسية والفنية.

وبالتالي لا بد من وضع ضوابط ومعايير لعمليات البناء والتعمير والتشدد في منح تراخيص إنشاء التجمعات السكانية للجهات التي تقوم بإنشائها، فلا بد للمؤسسات والأجهزة المحلية القائمة على تنظيم وإدارة هذه المناطق من التوافق فيما بينها على ضبط هذه الأمور حفاظاً على أرواح الناس وممتلكاتهم، والترفع على المصالح الآنية والصغيرة والضيقة.

رعاية الأيتام والأطفال المتضررين نفسياً:

لا شك أن الكثير من الأطفال والأشخاص فقدوا أسرهم، وهناك حالات أخرى تم فقدان العائلة بكاملها، وكثير من العائلات لم يبقَ منها سوى شخص واحد، إضافة للآثار النفسية على الأشخاص الذين أصابهم الزلزال وما خلّفه من خوف واضطراب نفسي، لذلك لا بد من وضع برنامج رعاية وتأهيل شامل للأطفال والأرامل، من خلال تقديم المأوى والرعاية البدنية والصحية لهم، إضافة لرعاية الأيتام من الناحية التعليمية والتكفل بمستلزماتها.

تحديات صحية طويلة الأمد:

بالأصل تعاني المنظومة الصحية في الشمال المحرر من فقدان القدرة على تقديم الخدمات الصحية الأساسية للمرضى، فهناك فجوة كبيرة بين الاحتياج الصحي وبين الطاقة الاستيعابية للقطاع الصحي، حيث أدى قصف النظام وحلفاؤه إلى إلحاق الضرر الكلي أو الجزئي بكثير من المستشفيات والنقاط الطبية.

وبعد الزلازل المدمر الذي أصاب المنطقة، أُضيفت أضرار أخرى إلى المنظومة الصحية المتبقية، لذلك نحن أمام حاجة ماسة وعاجلة لدعم القطاع الصحي، وخصوصاً بعد ظهور مخيمات جديدة ومغادرة الأشخاص لمنازلهم بسبب الخوف من حدوث زلازل أخرى، فنحن أمام ضرورة كبيرة في إعادة تأهيل المستشفيات وتأهيل كوادرها وتقديم المعدات اللازمة لها، إضافة لتخديم المخيمات بما تحتاجه من الرعاية الصحية ومياه وصرف صحي وأدوات نظافة، وتقديم الرعاية الصحية للنساء الحوامل وغير الحوامل والأطفال من لقاحات وعناية صحية، وخصوصاً بعد انتشار الأمراض والأوبئة ومنها الكوليرا، الأمر الذي يحتم الاهتمام بموضوع النظافة و إمداد المخيمات باحتياجات النظافة والتوعية الصحية.

عمليات الإنعاش الاقتصادي:

إن الكثير من المتضررين بفعل الزلازل تتضرروا مادياً، فمنهم من فقد منزله وهناك من فقد سيارته وهناك من فقد متجره ومحله الذي كان يمده بقوت يومه، وهناك من أصبح عاجزاً عن القيام بعمله لإصابة تعرّض لها تمنعه من العودة لحياته وعمله، ومن المعلوم أن المنطقة ذات كثافة سكانية عالية يُشكّل المهجرون فيها أكثر من نصف السكان من الشمال المحرر، وهذا يعني أن الكثير منهم عاد إلى البداية التي انطلق منها منذ نزوحه.

لذلك نحن أمام حاجة ماسة لدعم هؤلاء بمشاريع صغيرة ليتمكنوا من الانطلاق من جديد من خلال مشاريع التعافي المبكر التي يمكن أن تساهم بتخفيف آثار الزلازل إلى حد كبير على تلك الشريحة المتضررة وغيرهم من أهالي المنطقة المتضررين بفعل الزلزال.

مقالات الكاتب

حائز على إجازة في الحقوق من جامعة دمشق، طالب ماجستير في القانون العام،
عضو في الهيئة العامة لفرع محامي دمشق وريفها التابع لنقابة المحامين الاحرار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى