هل من إيجابيات للنقاشات السورية حول محاكمة أنور رسلان؟

أثارت المحاكمات التي جرت لكل من أنور رسلان وإياد الغريب انقساماً كبيراً في الشارع السوري “الثوري”، فقد اعتبر البعض أن هذه الإدانات مهمة جداً في مسار العدالة السوري لأنها أول إدانة قضائية في العالم غير مباشرة لنظام الأسد وأجهزته، وبأن انشقاق كل من الرجلين باكراً لا يعفيهم من المسؤولية، وبأن العدالة لابد أن تطال كل من ارتكب انتهاكات بحق الشعب السوري في موقف يتطابق مع ترحيب الأمم المتحدة ومجموعة من وزراء خارجية دول، كألمانيا والولايات المتحدة وبريطانيا.

في حين رأى البعض الآخر بأن هذه العدالة عقابية لمن رفض الاستمرار في ركب نظام الأسد ولرتب متدنية جداً ويشوبها الخلل أساساً في تحديد من هو الجلاد فعلاً لمحاسبته، وبأنها انطلاقة كارثية لمسار المساءلة والمحاسبة، وبأن هذه الملاحقات أكبر عملية تضليل وخداع للسوريين تقوم بها منظمات ومراكز “بدوافع تمويلية ودعائية بحتة”، يضاف لكل ذلك الكثير من التفاصيل وخاصة حول أدلة الإدانة الناجمة عن شهادة إياد الغريب نفسه عن إجرام الأفرع الأمنية وقتل المتظاهرين.

اكتنف نظرة كل فريق للآخر الكثير من الاتهام بالجهل وعدم المعرفة، إلى جانب الغمز واللمز من زاوية التآمر والتخوين، على الرغم من أن هذا الحوار غير المجدول والمنظم -إن صح التعبير- جاء ضمن معسكر سوري واحد، ولم يشمل كل شرائح السوريين، بمعنى أن كل هذا النقاش ما يزال ضمن دائرة الثورة والمعارضة، ولم تشارك فيه شرائح مقيمة في مناطق نظام الأسد أو مناطق “قسد”. وبالتالي لنا أن نتخيل ما سيؤول إليه الأمر فيما لو شمل النقاش هذه الشرائح.

نعتقد أن الجدل والنقاش الذي حصل في هذه القضية يعد أمراً طبيعياً ومهماً في الوقت ذاته، وذلك أن مسار العدالة الانتقالية بكل جزئياته ومساراته ومراحله يمس غالبية السوريين، وفي غالبية التجارب المشابهة، كانت هنالك نقاشات واسعة قبل مواجهة انتهاكات الماضي وأثنائها وبعدها، فلا يكمن الخلل في وجود آراء متعددة حول هذا المسار، بل في طريقة تفكير من يظن أن مثل هذا المسار بتشعباته وتعقيداته سيكون مساراً نظرياً بسيطاً سيلتف حوله جميع السوريين.

ثمة تساؤلات جوهرية كثيرة تتعلق بمسار العدالة الانتقالية منها: هل سيتم محاكمة جميع مرتكبي جرائم الحرب في سوريا؟ وهو عدد هائل جداً، أم سيكون هناك تمييز تبعاً لحجم المسؤولية وحجم الانتهاكات؟ وهل سيكون الانشقاق عن النظام بحد ذاته مانحاً للعفو التلقائي عن الجرائم السابقة أو اللاحقة أم سيمنح عذراً مخففاً؟ وهل يجب أن يطبق مبدأ العفو مقابل الحقيقة على أصناف معينة من الجرائم؟ وهل العقوبات بحد ذاتها ستكون جزائية تقليدية لكل المدانين؟ أم سيكون هناك عقوبات بديلة (كالعقوبات الاجتماعية والمالية)؟ وهل وهل …إلخ. هذه الأسئلة الجوهرية وغيرها تتطلب أكثر ما تتطلب إجابات توافقية لابد أن تسبق بنقاشات وحوارات ضمن الفضاء العام، وبالتالي لا تكون المشكلة في هذا النقاش العام بقدر ما تكون في ترشيدنا له والبناء عليه والاعتياد على خوضه.

لا يمكن أن يتحقق التوافق النسبي إلا بإعلاء قيمة الحوار بمختلف معانيه وأشكاله ومضامينه، إذ إن الغاية الأهم للحوار في هذا المسار، والمتمثلة بالتعرف على وجهات النظر وتقريبها وفهم الآخر تشكل عملية ونهجاً حتمياً وأساسياً يسمح بالبناء عليه، ويؤدي غيابه أو الاستخفاف بأهميته إلى فتح الباب للتشكيك والتخوين وصولاً للمزيد من الانقسام.

لقد كان الحوار والنقاشات ضمن الفضاء العام مرافقاً لمختلف مراحل العدالة الانتقالية في مختلف التجارب المقارنة، كتجارب دول أمريكا اللاتينية (الأرجنتين وتشيلي) والأفريقية (جنوب أفريقيا) وصولاً للدول العربية (المغرب وتونس)، والتي ساهمت في التأسيس لمقاربة وطنية خاصة لهذا المسار، وفي إنتاج قانون خاص بالعدالة ومؤسساتها كـ “هيئات الحقيقة”.

كل ذلك يؤكد على ضرورة وحتمية العمل على بناء نظرة استراتيجية متكاملة وغير متجزأة تبنى على مبادئ متفق عليها قدر الإمكان توازن بين ضرورات العدالة وفلسفتها وبين الانطلاق للمستقبل، وهو ما يحصل بشكل جزئي عبر جهود بعض منظمات المجتمع المدني في داخل سوريا وخارجها، التي يفترض تركيزها على نشر ثقافة الحوار لدى مختلف الشرائح، وتعزيز الثقافة الحقوقية بمختلف أشكالها، كل ذلك بما يساهم في إشراك هذه الشرائح في الوصول إلى توافقات مهمة بخصوص مسار العدالة الانتقالية قد تلحق بتوافقات أكبر وأهم على الصعيد السياسي والاجتماعي السوري.

 ولا ننسى ضرورة أن تولي المنظمات الحقوقية الحالية بما في ذلك منظمات الضحايا التي نشأت مؤخراً، أهمية خاصة لفكرة الحوار مع الجمهور والاهتمام بوجهات نظره دون التعامل بنظرة دونية، أو اعتبار أنها مخولة بحكم الظروف الراهنة بتطبيق رؤيتها الخاصة وإن توافقت هذه الرؤية مع المعايير الدولية الفضلى والقانون الدولي.

مقالات الكاتب

باحث مساعد في وحدة التوافق والهوية المشتركة يحمل إجازة في الحقوق وحاصل على شهادة الماجستير في القانون العام، ناشط في المجتمع المدني والمجال الحقوقي وقدم عدداً من البرامج التدريبية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى