رأس المال الاجتماعي: إشكالية المفهوم وأهمية قياسه في السياق السوري

لو أن أي أحد سُأل عن رأس ماله كسؤالٍ عامٍ ومجرد ستكون الإجابات عادةً تتركز على البعد المادي “الاقتصادي” أي ما يملكه كفرد من أموال ثابته أو منقولة، أو تتركز على بعد غير مادي كرأس ماله الفكري أو الثقافي كالحديث عن شهاداته ومعارفه وعلومه، أو في معنى أوسع قد يجيب البعض عن مدلولات أخرى تستند لمحددات الاعتبار الرمزي كالمكانة والأخلاق والشرف والسمعة، وبالطبع فإن ذات السؤال المفتوح يصحُّ على الجماعات كما الأفراد، إلا أننا لو أضفنا كلمة أخرى أمام سؤال رأس المال ليصبح السؤال كالتالي: ما هو رأس المال الاجتماعي للمجتمعات المحلية أو الوطن ككل؟  لأصبحنا غالباً أمام سؤال غير مألوف وحالة من التشويش، فهل للمجتمعات رأس مال؟

إجابة على هذا التساؤل شهدت العلوم الإنسانية في العقود الأخيرة بروز مفهوم جديد حاز شهرة واسعة جداً وهو مفهوم رأس المال الاجتماعي الذي يتداول بوصفه “علاجاً لكل المشكلات” وبـ “الشافي لكل الأمراض التي يعاني منها المجتمع محلياً وفي الخارج”، “والحلقة المفقودة للتنمية” وذلك انطلاقاً من حقيقة استحالة حصول التحديث والإصلاح في المجتمعات من دون وجود نسق اجتماعي قيمي يدعم العلاقات والتفاعلات.

يوضح البنك الدولي مفهوم رأس المال الاجتماعي بأنه: المؤسسات؛ كالأسرة ومنظمات المجتمع المدني بمختلف أنواعها، والعلاقات؛ كالقرابة والجيرة والشراكات الاقتصادية، والمعايير كالمشاركة في الشأن العام والقيم المشتركة، التي تشكل نوعية التفاعلات الاجتماعية في المجتمع وكميتها. فكلما زادت مستويات العلاقة بين المؤسسات والتفاعلات والعلاقات الإيجابية بين الأفراد، كلما كان ذلك دليلاً على حيوية رأس المال في المجتمع وغناه.

إلا أن المفهوم السابق لرأس المال الاجتماعي ليس محل توافق على المستويين النظري والتطبيقي، فالبعض يحصره بين الأفراد والعائلات الذين يشكلون وحدة اجتماعية بما يعبر عن راس مال اجتماعي “رابط”، فيما يرى البعض الآخر أنه يشمل الشبكات العاملة الرسمية (كالمؤسسات الحكومية) وغير الرسمية (كالشبكات الاجتماعية التقليدية العشيرة، والحديثة منظمات المجتمع المدني) في المجتمع، كذلك برز اتجاهين اثنين في تعريفه الأول يركز على البعد البنيوي أي بنية وتركيب الشبكات الاجتماعية الموجودة بالمجتمع من خلال دراسة تركيب الشبكات في مجتمع ما وطبيعة العلاقات والروابط سواء أكانت حديثة أم تقليدية، والثاني يركز على المضمون أو المحتوى أي المعايير التي تحكم رأس المال الاجتماعي من خلال التركيز على القيم والرؤى المشتركة بدلا من بنية الشبكات،  وكذلك الاختلاف في محور المفهوم ذاته بين جعل الفرد هو المحور وبين من جعل الجماعة مجور المفهوم.

كذلك يبدو المفهوم ككل متداخلا مع مفاهيم شبيهة عديدة من أنواع راس المال غير المادي الأخرى كراس المال الثقافي والذي يتشكل مما يمنحه التعليم والتدريب من مهارات ومعرفة وامتيازات وتوقعات ومكانة اجتماعية، وراس المال البشري وهو مجموعة من المعارف والمهارات والقدرات الصحية التي يستثمر فيها الناس وتتراكم لدى الأشخاص على مدار حياتهم بما يمكِّنهم من استغلال إمكاناتهم كأفراد منتجين في المجتمع.

في هذا السياق تبرز إشكالية جديدة  أيضاً وهي تحديد مكونات راس المال الاجتماعي ولعلها الأهم بوصفها تتويجاً لكل ما سبق وتبعاً لارتباطها بالجانب التطبيقي أي عملية قياس راس المال الاجتماعي في مجتمع ما، إذ تختلف الأدبيات النظرية بما فيها المؤسسات الدولية في المكونات التي تشكل معاً مفهوم راس المال الاجتماعي، وبالقيام بجرد واسع للمكونات المذكورة يمكن تعداد أبرزها بما يلي: الثقة الاجتماعية، التضامن، التعاون، الاتصالات والتفاعلات، المشاركة السياسية، المشاركة المدنية، القيم، الرؤى، الشبكات الاجتماعية التقليدية، الشبكات الاجتماعية الحديثة، الروابط والعلاقات.

يعد ما سبق مدخلاً لنقل الإشكاليات من الجانب النظري إلى الجانب التطبيقي، فكيف يمكن أن يتم قياس رأس المال الاجتماعي إن كانت مؤشراته الرئيسية مختلف عليها بشدة، وما هي درجة الموثوقية في نتائج القياس الكمية أو النوعية أو المختلطة على حد سواء، كذلك تظهر إشكالية أداة القياس ودقتها وتعبيرها عن المفهوم إذ لا توجد حتى اليوم أداة قياس معيارية رغم عديد المحاولات الجدية والجديرة بالتقدير العلمي. كل ذلك إلى جانب التحديات المرتبطة بالظاهرة الاجتماعيّة بحد ذاتها وصعوبة قياسها خصوصاً في حالة الأزمات والطوارئ.

بالعودة إلى السياق السوري عموماً والمناطق المحررة خصوصاً، فإن العديد من معايير رأس المال الاجتماعي تطفو على السطح؛ على سبيل المثال، تبرز باستمرار معضلة وجود “رؤى مشتركة” لدى المقيمين أو غالبيتهم في المناطق المحررة حول شكل الإدارة وطريقتها وقضية فتح المعابر مع المناطق الأخرى التي تحت سيطرة نظام الأسد وقسد، وكذلك مستوى “الثقة الاجتماعية” بين الأفراد والجماعات بمختلف انتماءاتها، والذي يسهم في انخراطها  في علاقات وروابط؛ اجتماعية كعلاقة زواج بين “عرب وأكراد وتركمان” أو بين “مهجرين ومقيمين”، واقتصادية كتأسيس شراكات وفتح مشاريع مشتركة، إلى جانب مستوى التفاعل والعلاقات والاهتمام بالشأن العام والمشاركة في الأعمال التطوعية. وصولاً لأسئلة عديدة عن مدى قوة الشبكات المباشرة “العائلية والأسرية” وغير المباشرة “كالصداقة والجيرة”، في تشكيل شبكات أمان تخفف من آثار الأوضاع الاقتصادية السيئة.

 هذه القضايا وغيرها الكثير من الأسئلة التي تطرح نفسها بقوة عن التفكير بالإشكالات والحلول معاً في سياقنا السوري تقتضي من المهتمين باحثين ومؤسسات العمل على محاولة قياس هذا المفهوم وطنياً أو على صعيد المناطق المحررة على أقل تقدير، ومن ثم الوقوف على جوانب ضعف رأس المال الاجتماعي ونقاط قوته، ومن ثم تقديم حزمة من الأدوات والوسائل التي يمكن أن تساهم في تدعيمه، وبما ينعكس إيجاباً ليس على العلاقات والتفاعلات الاجتماعية فحسب، بل على الهُوية الوطنية التي يمثل رأس المال أحد أبرز دعاماتها.

مقالات الكاتب

باحث مساعد في وحدة التوافق والهوية المشتركة يحمل إجازة في الحقوق وحاصل على شهادة الماجستير في القانون العام، ناشط في المجتمع المدني والمجال الحقوقي وقدم عدداً من البرامج التدريبية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى