المشاركة المجتمعية: آلية متاحة لبناء الثقة المؤسساتية في المناطق المحررة

تقوم عمدة مدينة باريس بتسليم نسبة 5% من ميزانيتها السنوية لقاطني المدينة ليقرروا بأنفسهم كيفية إنفاقها، إذ يتاح لهم الدخول عبر الإنترنت والمشاركة في استطلاع للاختيار من 15 مشروعًا، وهي التجربة التي بدأت لأول مرة عام 1989 في البرازيل بمدينة بورتو أليغري، وتقوم بتطبيقها أحياء عديدة ضمن مدن الولايات المتحدة الامريكية كشيكاغو. هذه إحدى الأساليب والأدوات التي يطلق عليها اسم “الميزانية التشاركية”، وهي أحد أحدث آليات تطبيق مبدأ المشاركة المجتمعية التي تستخدمها السلطة عادة -محلية كانت أو مركزية- لكسب ثقة المواطن، وفي الوقت نفسه لدفعه للمشاركة في الشأن العام.

تعني المشاركة بمفهومها العام اشتراك الجماهير في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ورسم الأهداف العامة للدولة والمجتمع، وتعني المشاركة المجتمعية كمفهوم حديث فتح المجال لأن يلعب الفرد دوراً فعالاً أبعد من مجرد اختيار الممثلين كل دورة انتخابية، بحيث يكون لديه الفرصة لأن يُسهم في الشأن العام عبر مستويات عديدة أدناها مجرد إبداء الرأي وتقديم الاستشارة، وأعلاها المشاركة في التنفيذ والمسؤولية المشتركة.

تشير معايير الحوكمة أن إتاحة أدوات المشاركة المجتمعية من أهم الأساليب التي يمكن للمؤسسات استثمارها من أجل كسب الثقة بينها وبين الشعب، إذ إنه يعزز التعاون بين الطرفين، ويسهم في تقريب وجهات النظر، وإيجاد أرضية مشتركة بينهما، ويسمح بوجود قرارات أكثر استدامة وقابلية للتنفيذ بحكم أخذها اهتمامات جميع الأطراف المعنية واحتياجاتهم بعين الاعتبار.

في المناطق المحررة، كشفت أحداث الشارع وأبرزها موجات التظاهر الشعبية حول قضية رفع أسعار الطاقة الكهربائية عن ازدياد الهوة بين الحاضنة الشعبية والمؤسسات، بل جاءت عمليات الحرق والتخريب التي طالت بعض المجالس المحلية كمؤشر خطير، وهو الأمر الذي يتطلب إدراك المؤسسات خصوصاً المجالس المحلية بحكم تصديها للمهام الخدمية حالياً داخل المناطق المحررة حتمية العمل على كسب الثقة الشعبية عبر الأدوات المتاحة بما في ذلك تلك المتعلقة بالمشاركة المجتمعية لردم الهوة بينها وبين المجتمع.

لا بد من التأكيد بداية على أن تصحيح المسار الإجرائي لتشكيل المجالس المحلية يعد حجر الزاوية في بناء الثقة، إذ يجب أن يتم التشكيل بناء على عملية انتخابية تتيح أوسع قدر ممكن من المشاركة في الانتخاب والترشح، وهو ما يمثل الأساس أو الحد الأدنى لتفعيل المشاركة رغم أن هذه العملية تعبر عن المشاركة السياسية التقليدية أكثر من مفهوم المشاركة المجتمعية بوصفه يتجاوز اختيار الممثلين إلى التفاعل المستمر.

لا تعد الدعوة إلى تطبيق المشاركة المجتمعية من المجالس المحلية ضرباً من ضروب الخيال أو عملية إسقاط لا تراعي سياق الحالة السورية وخصوصيتها، إذ إن الغاية أصلاً من تبني نظام الإدارة المحلية هي إشراك أكبر عدد من سكان المنطقة في إدارة شؤونهم المحلية وتنظيمها، وتطبيق المشاركة كآلية عملية لكسب الثقة المؤسساتية سيكون أصدق تعبير عن الحكـم السليم عبر مساهمة المجتمع (أفراداً وتنظيمات مجتمعية) في صنع التغييرات المهمة التي تجري في مجتمعـاتهم، وانخراطهم في العمل المجتمعي بما يساهم في تحقيق أهدافهم المشتركة.

وللإجابة على سؤال كيفية تطبيق هذه المشاركة في الشمال السوري؛ ثمة الكثير من الوسائل التي يمكن من خلالها للمجالس المحلية العمل عليها، ولعلّ من أبرزها: فتح الباب أمام مشاركة المجتمع بعمليات التخطيط المختلفة كتشخيص المشكلات وتحديد الاحتياجات والأولويات والمشاركة في تقديم الحلول، وذلك عبر آليات متعددة متاحة منها الاستبانة وتوقيع العرائض والتعبير عن الرأي بعد إتاحة المعلومات الكاملة حول القضايا والإمكانات، وعبر المقابلات والحوارات المركزة والمجتمعية والاجتماعات المفتوحة، وهو ما يعني أن المجتمع أصبح منخرطاً بآليات صنع القرار والمعبر الأول عن اهتماماته واحتياجاته بدلا من أن تفرض عليه.

 كذلك يمكن تفعيل المشاركة في عمليات التقييم من خلال أدوات عديدة منها تنفيذ استطلاعات رأي تشاركية تستطلع التغذية الراجعة للمواطنين عن جودة الخدمات بما يساهم في تطويرها وإصلاحها، وعبر وسائل الإعلام المختلفة وقنوات التواصل الرقمية.

أيضاً يمكن للمجالس المحلية مع إصدارها لوائح ناظمة للشأن المحلي كتحديد المخالفات والأنظمة البلدية والصحية والتعليمية تفعيل المشاركة المجتمعية في هذا الجانب خاصة للفرق المحلية والمراكز الفكرية والنقابات المختلفة وأصحاب المصلحة ومنهم المتأثرون بشكل رئيسي بمضامين هذه النظم، وذلك عبر المشاورات السابقة وعرض المسودات للنقاش وتلقي التقييمات اللاحقة بوسائل عديدة كعقد مشاورات عامة بين المجالس والمجتمع، وتنظيم الزيارات الميدانية وعقد المؤتمرات الصحفية واللقاءات الدورية.

ما سبق يمثل أمثلة بسيطة عن كيفية تطبيق المشاركة المجتمعية من المجالس المحلية وهو بدوره يمثل أحد الآليات المهمة لكسب الثقة المؤسساتية ولا يمكنها أن تمثل كل المطلوب لكسب الثقة[1]، ومن الجدير ذكره هنا أن المشاركة المجتمعية بدورها تتطلب ضماناً للنجاح وجود العديد من المستلزمات كاعتماد مبدأ الشفافية الإدارية والمالية من قبل المجالس وترتبط بمدى فعالية وجدوى المساءلة ومكافحة الفساد، ودرجة حرية المجتمع المدني وتمكينه محلياً، ومستوى حرية الرأي والتعبير.

لمشاركة المقال: https://youth.sydialogue.org/qawd


[1] للتوسع في جانب كسب الثقة المؤسساتية، يمكن الرجوع إلى الورقة البحثية الصادرة عن مركز الحوار السوري بعنوان: ” سبل استعادة الثقة بين الحاضنة الشعبية وقوى الثورة والمعارضة “ بتاريخ 15/06/2022

مقالات الكاتب

باحث مساعد في وحدة التوافق والهوية المشتركة يحمل إجازة في الحقوق وحاصل على شهادة الماجستير في القانون العام، ناشط في المجتمع المدني والمجال الحقوقي وقدم عدداً من البرامج التدريبية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى