نظرة موجزة حول تاريخ العلاقات التركية الأمريكية

تُوصف العلاقات الأمريكية التركية بأنها علاقات استراتيجية أو على الأقل كما تقول بعض التقارير، إذ إن البلدين بحاجة لبعضهما البعض تبعًا للمتغيرات الكثيرة التي تجري في العالم، كالحرب في أكرانيا مثًلا وارتداداتها على السلام العالمي؛ فإذا وافقنا على الشق الثاني من الطرح -شق الحاجة المتبادلة-  فلا يمكن أن يكون الشق الأول نافذًا ، فتبعًا للتتبع التاريخي للأمر  يمكن القول إن جريان العلاقات بين البلدين ماضٍ بتاريخ من الصعود والهبوط؛ تحالف وصداقة وتفاهمات، ولحظات من الجفاء وكذلك لحظات من التضاد والخصومة، وإن لم تصل إلى مرحلة الاشتباك القوي أو الحاد تبعًا لعدم وجود اتصال جغرافي بين البلدين وإنما اشتباك تضاد في المصالح فقط.

يمكن القول إن العلاقات العثمانية/ التركية الأمريكية -لأن الوثائق الغربية تشير للدولة العثمانية باسم التركية-؛ يمكن القول إنها تعود إلى ما قبل 200 عام، حيث يعود منشأ العلاقات الثنائية بين البلدين إلى تصور التهديد المشترك.

بداية العلاقات:

تُعتبر الزيارة الرمزية لجورج واشنطن الذي يُعتبر من الآباء المؤسسين”Founding Fathers”  في أمريكا؛ إلى إسطنبول في  أوائل العام 1800 نقطة انطلاق لبداية التواصل الثنائي بين أمريكا وتركيا ممثّلةً حينها بالدولة العثمانية، لاحقًا افتُتحت أول قنصلية للولايات المتحدة في مدينة إزمير وعُيّن الدبلوماسي الأمريكي “ويليام ستيوارد” -وافتتاح القنصلية هنا لا يُعتبر عملاً دبلوماسياً رسمياً- ولكن في العام 1831 عُين “جورج ارفينغ” كأول دبلوماسي اتصال أمريكي لدى العثمانيين، الأمر الذي لم ترده إسطنبول بالمثل حينها، ولم يحصل ذلك إلا بعد عقدين من الزمن متمثلًا بــــ “Emin Bey”  أو “السيد أمين” أول دبلوماسي عثماني هناك، وفي العام 1858 افتُتحت أول قنصلية فخريَّة عثمانية في أمريكا، وكانت العلاقات في تلك الفترة عند درجة منخفضة، ولم تتحرَّك المياه الراكدة إلا في العام 1906 عند افتتاح السفارة الأمريكية وتبعتها العثمانية بخطوة مماثلة في العام 1912، تمثّلت أهداف تلك المحاولات الأمريكية لإقامة علاقات مع العثمانيين بهدف مباشر، وهو حماية المبشّرين الأمريكيين“American missionaries”  في الأناضول. فيما بعد وأثناء الحرب العالمية الأولى تحديدًا عام 1917 قطعت الدولة العثمانية العلاقة مع أمريكا بسبب إعلان الأخيرة الحرب ضد ألمانيا التي كانت تشترك مع العثمانيين كحليف في دول المحور.

أهداف الاهتمام الأمريكي بالأراضي العثمانية:

يمكن اختصار الأهداف بما يلي:

  • تأمين ممر آمن للسفن الأمريكية عبر المضائق العثمانية (البوسفور والدردنيل).
  • إنشاء واستدامة وجود قاعدة بحرية أمريكية في منطقة الشرق (لبنان وسوريا) لحماية التجارة الأمريكية في المنطقة وهذا ماكان يتطلَّب الوصول لتفاهمات مع الامبراطورية العثمانية.
  • التأكد من تأمين واستدامة إمدادات الطاقة من منطقة قزوين (باكو) ومصر تجاه الغرب.

أهداف الاهتمام العثماني بإنشاء علاقة مع الولايات المتحدة:

كانت مجابهة التهديدات الأوربية هي نقطة الارتكاز التي دفعت الدولة العثمانية لإنشاء علاقات مع الولايات المتحدة، ومع ذلك لم يكن الاهتمام العثماني بإنشاء علاقات مع الولايات المتحدة منحصرًا بذلك، بل انصبّ في مراحل لاحقة اهتمام السلطان عبد الحميد الثاني على إنشاء تلك العلاقات بحكم وجود أمريكا في الطرف الثاني من العالم وأنها لاتحمل جينات إمبريالية أو كولونيولية تجاه الامبراطورية العثمانية على عكس الدول الأوربية، ويساعدها في ذلك الاتصال الجغرافي مع المنطقة العثمانية.

العلاقات أثناء الحرب العالمية الأولى:

صعدت الولايات المتحدة كقوة عظمى قبل الحرب العالمية الأولى بقليل، كان للإعلان المُكنّى بـــ “النقاط الأربعة عشر”  للرئيس الأمريكي ويلسون وقعٌ جيدٌ لدى الأتراك الذين أشادوا به وبالنقطة 12 تحديدًا التي تتلكم عن المطالب المحقَّة بالاستقلال التام، والنقد الذي وجهه للمطامح الاستعمارية، الأمر الذي أزعج الدول الأوربية وبالتحديد فرنسا وبريطانيا.

ساعدت تلك النظرة التركية تجاه أمريكا إلى الإعلان عن قابلية الأتراك لقبول المساعدات الأمريكية إبان بدايات حرب التحرير التركية، وعلى مضض القبول بانتداب أمريكي بدلًا من الاحتلال الأوربي.

فيما بعد الحرب العالمية الأولى لم توقع أمريكا على أي اتفاقية مع الجانب الأوربي فيما يخص شأن المنطقة بما فيها اتفاقية لوزان التي أعطت الاستقلال لتركيا، بسبب العودة إلى سياسة العزلة”Isolationism policy”  بعد فترة الرئيس ويلسون، واستمر عدم وجود علاقات رسمية بين الطرفين حتى عام 1927  والذي أنشا فيه الطرفان اتصالات دبلوماسية، وخلال فترة الجمود أو المتسوى المتدني من التواصل لم يكن للولايات المتحدة أي تدخل في الشؤون التركية الداخلية مثل قضية (الموصل- هاتاي) وغيرها، وتبعًا لسياسة العزلة تلك لم يتم دعوتها إلى مفاوضات اتفاقية مونترو للمضائق عام 1936، كذلك لم تكن جزءاً من المحادثات الثلاثية التي جرت بين فرنسا وبريطانيا وتركيا.

فيما بعد وُضِعت الأسس للعلاقات الثنائية بين البلدين بعد الحرب العالمية الثانية، الأمر الذي كان من أسبابه:

  • التحول التركي التدريجي تجاه الغرب.
  • استضافة علماء الآثار الأمريكيين في تركيا.
  • بعض الكتابات الصادرة من مثقفين وأدباء أتراك اتجاه الجمهور الأمريكي.

العلاقات أثناء الحرب العالمية الثانية:

لم يكن هناك تواصل مباشر بين البلدين أثناء الحرب العالمية الثانية باستثناء قانون الإعارة والتأجير  “Lend and Lease” عام 1941 للإمدادات الحربية وتوفير إمكانيات اقتصادية للدول الحيوية للدفاع عن الولايات المتحدة -القانون الذي أعيد إحياؤه لتقديم الإمدادات العسكرية لأوكرانيا في الحرب الروسية الأخيرة- الفرصة التي استغلتها تركيا بالانخراط في هذا البرنامج إلى جانب الدول الأوربية كبريطانيا، الأمر الذي لم يستمر طويلاً بعد أن طلبت بريطانيا من الولايات المتحدة ممارسة ضغط على تركيا لكي لا تكون أكثر قربًا من ألمانيا، خاصة أنها جزءٌ من التحالف الثلاثي، وبناءً على هذا الضغط علَّقت الولايات المتحدة مشاركة الطرف التركي في البرنامج بعد توقيعها اتفاقية عدم اعتداء مع ألمانيا في 18 حزيران 1941. تصاعد توتر العلاقات الثنائية مع قرار تركيا بيع مادة الكروم لألمانيا النازية، كانت تركيا في تلك الفترة تحاول أن توازن الحبل بين الطرفين وكأنها تمشي في حقل ألغام، فاشترت السلاح من قوى المحور والحلفاء تحسُّباً لتعرضها لهجوم من أحد الأطراف نظراً لقربها من ساحات الصراع في عهد عصمت اينونو، كذلك رفضت طلباً ألمانياً بالسماح بإدخال الغواصات عبر مضائق تركيا إلى البحر الأسود، الأمر الذي كان يشكل خرقًا لاتفاقية مونترو لإدارة المضائق، وهو ما دفع هتلر لنقل الغواصات برًا عبر أوروبا مستلهمًا خطَّة السلطان محمد الفاتح عند فتح اسطنبول، في تلك الأثناء عملت بريطانيا مدفوعة بعد رغبتها على إبقاء تركيا في الجهة الغربية؛ عملت على إقناع الولايات المتحدة بتوفير المساعدات لتركيا، الأمر الذي رفضته الويات المتحدة فعملت بريطانيا على إيجاد نوع من التوازان بالعمل على تأمين تلك المساعدات بنفسها.

الحد الأقصى من الضغوط على تركيا أثناء الحرب:

 مارست الولايات المتحدة ضغوطًا أكبر على تركيا مع تحوّل الحرب لصالح الغرب ضد ألمانيا، كانت تركيا في ذلك الحين على رأس أجندة المؤتمرات الأساسية التي عُقِدت أثناء الحرب كمؤتمري طهران وكازابلانكا عام 1943، الأمر الذي كان يؤكد رغبة الأطراف الغربية بإقحام/توريط تركيا إلى صفها بإعلان الحرب ضد ألمانيا النازية، وعلى إثر تلك الضغوط وافق الرئيس التركي حينها عصمت اينونو على دخول مشروط للحرب إذا تم توفير السلاح اللازم لذلك إذا أخذ بالاعتبار ضعف الجيش التركي آنذاك، كان الهدف من ذلك التهرب من الحرب وبنفس الوقت الاستمرار ببيع مادة الكروم لألمانيا، الأمر الذي دفع الولايات المتحدة للتهديد بفرض حصار على تركيا، وتحت ذلك الضغط وافقت تركيا على تحديد نسبة المبيعات من الكروم لألمانيا ومن ثم إيقاف التصدير نهائيًا عام 1944 .

نهاية الحرب:

استمر الحلفاء بما فيهم الولايات المتحدة في ممارسة أقصى درجات الضغط عل تركيا لقطع علاقاتها مع ألمانيا، الأمر الذي لم يكن يشغل بال تركيا في تلك الفترة بقدر الخطر السوفييتي عليها والشك الذي اعتراها من الطلبات السوفيتية بعد الحرب، خاصة فيما يتعلَّق بشأن المضائق، الأمر الذي دفع تركيا للطلب من الحلفاء بشكل خاص بريطانيا وفرنسا للتنبه لذلك، وعليه طلبت تركيا أن تعود إلى برنامج الإعارة والإقراض.

قررت تركيا في أغسطس من العام 1944 قطع العلاقات مع ألمانيا، القرار الذي أرضى الحلفاء ولم يُرض السوفييت لأنه يُعدّ تحولاً تركياً من خط “الحياد غير المعلن” تجاه الخط الغربي، الأمر الذي دفع ستالين لوضع تركيا في أجندة مؤتمر يالاطا؛ المؤتمر الذي ناقش تقسيم ألمانيا بين الحلفاء، وتغيير الوضع القانوني للمضائق التركية بما يتناسب مع الاتحاد السوفييتي، وفي وقتٍ لاحق عام 1945 أخطر الاتحاد السوفيتي تركيا بنيته تمديد اتفاقية عدم الاعتداء التي وُقِّعت بين الطرفين في وقت سابق.

تطور العلاقات بعد الحرب العالمية الثانية:

كانت المعادلة بسيطة: توفِّر تركيا للولايات المتحدة القواعد لمراقبة وتطويق الاتحاد السوفيتي، في مقابل توفير الولايات المتحدة للمساعدات الاقتصادية والمظلّة العسكرية الدفاعية لتركيا، وكنتيجة لذلك استدامت الولايات المتحدة في وجود عدد من القواعد الأمريكية على الأراضي التركية في فترة 1950 عبر العديد من الاتفاقيات ثنائية الجانب، في حين استقبلت تركيا ما مجموعه 1.6 بيلون دولار أمريكي كمساعدات اقتصادية بين عامي 1948- 1964.

ظهور المشكلات:

ظهرت العديد من الأزمات خلال مرحلة تطور العلاقات أثناء الحرب الباردة، أول تلك الأزمات كان أزمة الصواريخ الكوبية

 “Cuban Missile Crisis”  تعود جذور الأزمة إلى قرار الولايات المتحدة بإزالة صواريخ “جوبيتر” دون استشارة تركيا في الأمر؛ الصواريخ التي تُعتبر بمثابة ضمانة أمنية لتركيا في مواجهة الخطر السوفيتيي، المشكلة الأخرى الأكبر كانت رسالة جونسون “Johnson letter” إلى الرئيس التركي آنذاك عصمت اينونو، وتضمّنت إخطارًا بأن التدخل التركي في قبرص سيترك تركيا وحيدة في مواجهة أي عدوان سوفيتيي محتمل عليها دون المظلة الأمنية الأمريكية، ساءت الأوضاع بشكل أكبر مع التدخل التركي العسكري في قبرص عام 1974، حيث وُضِعت تركيا تحت العقوبات وحظر تصدير السلاح الأمريكي، ولم تستأنف العلاقات إلا بعد مضي نحو 5 سنوات عند توقيع اتفاقية التعاون الدفاعي والاقتصادي المشترك بين الجانبين عام 1980.

الانفراجة:

كانت عقيدة ترومان “Truman Doctrine” حجر الأساس الذي بُنيت عليه العلاقات في هذه المرحلة، فمع التهديد السوفيتي الملموس لدى الطرفين إبان الحديث السوفيتي عن قضية المضائق التركية مجددًا والتكامل الإقليمي، كانت الولايات المتحدة هي المسؤولة عن الرد على هذا التهديد عن طريق عقيدة ترومان؛ العقيدة التي كان لها دور في إنعاش العلاقة بين الطرفين عن طريق المساعدات العسكرية والاقتصادية التي قدّمها الجانب الأمريكي لكلٍ من تركيا واليونان في دور صعود التهديد السوفيتي، الأمر الذي رحَّبت به تركيا في ضوء أن المطالب السوفيتية المستمرة  لايمكن مجابهتها إلا بدعم دولي وبشكل خاص دعم الولايات المتحدة؛ الدولة الوحيدة القادرة على إمداد تركيا بالمساعدات على الجانبين الاقتصادي والتحديثات العسكرية التي تشتد الحاجة إليها،  فيما بعد وأثناء الحرب تعزز دور تركيا في الخط الغربي بدخولها للناتو كعضو كامل عام 1952، أضف إلى ذلك عقيدة أيزنهاور التي تختص بمجابهة إمكانية وجود خطر سوفييتي في المنطقة وماوفره ذلك الإعلان من قرب في العلاقات، بالإضافة  لإعلان حلف بغداد عام 1955.

العلاقات بعد الحرب الباردة:

تغيرت العلاقة في بعض المراحل بين تركيا وأمريكا بعد الحرب الباردة، كان من أهم أسباب تلك التغيرات هو التحول الذي حصل في الأولويات والاستراتيجيات والنظرة السياسية للطرفين، لكنّ التوافق كان واضحاً بين الطرفين على استمرار التعاون في مرحلة ما بعد الحرب، ساعد في ذلك التصور بالنسبة للجانب الأمريكي الموقع الجغرافي والسياسي“Geopolitical location”  لتركيا في المنطقة حتى العام 1990، حيث ذهبت الجهود نحو إنجاز شراكة استراتيجية بين الطرفين، كان تركيز الجانب الأمريكي على الموقع الجغرافي والبعد السياسي كما ذكرنا لتركيا، وذهب تركيز الأخيرة إلى إمدادات الطاقة. بكل تأكيد كان هناك بعض الاختلافات في تلك الفترة كالنظرة الأمريكية للقضية الكردية وحزب PKK.

مضت العلاقات في صعود وهبوط، بما مرّت بها من أحداث مثل هجمات 11 سبتمبر وطلب الولايات المتحدة استخدام الأراضي التركية لغزو العراق ورفض البرلمان التركي لذلك، وصولًا إلى الانتكاسة التي حصلت في العلاقات مع بدء الثورة السورية تبعًا للدعم الأمريكي الذي حصلت عليه الأحزاب الكردية/الانفصالية شمالي سوريا، ما استدعى ردود أفعال تركية قوية ماتزال آثارها ظاهرة حتى اليوم مع ولايات الرؤساء الأمريكيين المتتاليين وصولًا للرئيس الحالي جو يابدن.

مقالات الكاتب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى