بحثاً عن معقلٍ آمن

ارتبطت كلمة اللجوء تاريخياً بالحماية، حيث يقصد اللاجئ ملاذاً غير وطنه، فيتمتع بحماية الدولة المقيم بإقليمها والتي يمثل جزءاً مهمّاً من سمعتها ومكانتها بين الدول، حيث يقتضي العرف بعدم تسليم طالب اللجوء أو إعادته إلى بلد يخشى فيه من التعرض للاضطهاد، مع حفظ حقوقه ومساعدته على الاستقرار وبدء حياته من جديد، إلا أن البقاء في مكان آمن لا يعني انتهاء الحرب لدى اللاجئ، فآثارها قد تحتاج سنوات للاختفاء، وسلامة الجسد لا تعني النجاة فلأنفسنا وأرواحنا حقّ بالتداوي أيضاً.

الصحة النفسية للاجئين

يتعرض اللاجئون لعوامل ضغط نفسي مختلفة تؤثر على سلامتهم النفسية ومعيشتهم، قبل الشروع في رحلة هجرتهم وخلالها وأثناء اندماجهم في المجتمعات الجديدة، حيث تترك الحرب آثاراً نفسية عميقة على من عاش فيها وتوالت عليه صدماتها، ثم تأتي رحلة الهجرة إلى المجهول بما تحويه من مخاطر قد تهدد حياة الفرد، لكنه مجبر على الاستمرار هرباً من خطرٍ أكبر، وبعدها في أفضل أحواله يحصل على فرصة دخول بلد ما يلجأ إليها ليواجه أعباء الحياة في محيط غريب عنه ومجتمع ينتظر منه إتمام مهامه على أكمل وجه متناسياً مشاعره المتلَفة وروحه المنهكة، مستكثراً عليه أبسط حقوقه الإنسانية، ومن هنا تبدأ مواجهته لصراعاته الداخلية التي تجاهلها أيام الوقائع حفاظاً على سلامة عقله، وشيئاً فشيئاً تتضح جراحه النفسية وآثار التشوهات التي لم يَعبأ أحدٌ بعلاجها.

الاضطرابات النفسية لدى السوريين في بلاد اللجوء

تمثل الأزمة السورية أسوأ كارثة إنسانية منذ الحرب العالمية الثانية حسب مفوضية الأمم المتحدة[1]، إذ بلغ عدد اللاجئين السوريين 6.8 ملايين خارج البلاد، و 6.9 ملايين نازحين داخلياً منذ عام 2011، وتشير الإحصاءات التي أُجريت لدراسة أوضاع السوريين النفسية في مختلف بلاد اللجوء إلى نتائج مقلقة تستدعي التحرك بجدية لاحتواء هذه الأزمة.

 خلصت دراسة[2] أجرتها منظمة “إغاثة سوريا” البريطانية على 721 من الشباب والشابات السوريين في لبنان وتركيا ومحافظة إدلب بشمال سوريا أن 75٪ منهم يعانون من 7 أعراض على الأقل لاضطراب ما بعد الصدمة، كما نشرت جامعة مرمرة التركية دراسة[3] أجرتها في مدينة اسطنبول تُظهر أن 60 ٪ من الأطفال السوريين في تركيا يعانون أمراضاً نفسية، جراء تعرّضهم لصدمات حين كانوا في سوريا، إضافة إلى أن ما يقارب نصف اللاجئين في دول أوروبية مختلفة يعانون من مشاكل نفسية حسب دراسات أخرى في السويد[4] وألمانيا[5] وهولندا[6].

أكثر الاضطرابات تفشياً بين اللاجئين وآثارها عليهم

إن انشغال اللاجئين بالبيروقراطية فور وصولهم إلى بعض الدول يؤخر فترة ظهور أعراض أي صدمات نفسية، ولكن الأعراض قد تبدأ مع الاستقرار والخروج من “مرحلة النجاة”، وهذه حصيلة تراكمات نفسية آثر اللاجئ كبتها تاركاً الأولوية لتأمين احتياجاته الأساسية، فترى العديد من اللاجئين تجاوزوا بحاراً وأسلاكاً شائكة لكنهم لم يستطيعوا تجاوز أزماتهم النفسية.

وأكثر هذه الأزمات شيوعاً وفق معايير كتاب الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية هو اضطراب الاكتئاب الحاد، ويأتي بعده اضطراب ما بعد الصدمة وهو اضطراب نفسي يحدث لمن عانى أو شهد حادثاً مؤلماً هدد حياته، وغالباً ما تحفز أعراضه من خلال روائح أو أصوات ومشاهد تعيد ذكريات التجربة التي عاشها، حيث تمر عليه التجارب الصادمة كشريط مصور لا يستطيع حذفه، ليجعل أيامه كلها متشابهة في ذهنه.

وتزامناً مع هذه الاضطرابات نرى انتشاراً ملحوظاً في الشعور بالوحدة لدى اللاجئين، وخاصة الذين اضطروا إلى الهجرة وحدهم تاركين خلفهم عائلاتٍ وأحبّاءً ووطناً متعلقين به، لكن الظروف كانت أقسى من قدرتهم على البقاء، فيُمسي الفرد منهم بحنين لذكرياته وحياته التي بقيت خلفه، يشعر داخله بفراغ رغم اكتظاظ محيطه، إلا أن هذا المحيط بعيد عن روحه لا يكاد أحد فيه يفهم ما يختلج بنفسه، حتى وإن حاول اللاجئ زيارة مختص نفسي في بعض الدول، تقف اللغة عائقاً لتزيد صعوبة وصول مشاعره وأحاسيسه بشكل دقيق.

وفي كثير من الأحيان يكون الشعور بالوحدة سبباً رئيسياً في اضطرابات مثل الاكتئاب والقلق، فيقاسي الفرد آلامه وحده بعد معاناةٍ ومحاولاتٍ يائسة للتعافي، وصولاً إلى الانتحار في بعض الحالات، وهذا ما نراه يزداد يوماً بعد يوم كما لم نعهد من قبل حيث كان السوريون يسجلون أقل معدلات انتحار[7] حتى نهاية 2010 حسب منظمة الصحة العالمية، لكن الحال لم يلبث إلا أن تغيّر بعد الأزمة التي شهدها الشعب السوري.

 فقد كشفت إحصائيات ألمانية[8] ارتفاع معدلات الانتحار بين اللاجئين لتتجاوز حاجز 400 محاولة خلال الفترة بين العامين 2014 و2016، وشهدت مناطق شمال غربي سوريا ارتفاعاً في أعداد حالات الانتحار خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة من عام 2020، حيث سجلت المنطقة 246 حادثة انتحار و1748 محاولة للانتحار، وقد حذرت منظمة “أنقذوا الأطفال”[9] من هذا الارتفاع، موضحة أن واحدة من كل خمس محاولات ووفيات مسجلة تعود للأطفال، و42٪ ممن حاولوا الانتحار أعمارهم دون 15 عاماً، وبحسب التقرير فإن 187 حالة وفاة ناجمة عن الانتحار، تعود لأشخاص هجّروا من ديارهم، ما اضطرهم للعيش بعد ذلك في ظروف قاسية ضمن المخيمات المكتظة ونقص البنية التحتية، وهي عوامل كافية لجعل الناس يشعرون بمزيد من الأسى.

الصدمة الثقافية وإشكالات الهوية

تعرّض العديد من السوريين لصدمات ثقافية قبل سنوات مع بدء رحلات اللجوء وعند مواجهتهم للمجتمعات التي هاجروا إليها، والصدمة الثقافية هي مزيج من مشاعر الإحباط والاكتئاب والخوف من المجهول الذي يواجهه الشخص عند الانتقال للعيش في مكان جديد غريب عنه، ومن الشائع حدوث هذا عندما يُقتلع الأفراد من بيئتهم التي اعتادوا عليها مجبرين على إكمال حياتهم في بيئة مختلفة إلى أجل غير مسمى، حيث تضيع أرواحهم بين لغات مختلفة وثقافات متباعدة، وهذا ما ساهم بعدم قدرة بعض اللاجئين على الاندماج في المجتمعات الجديدة.

لكننا في المقابل نشهد اليوم حالاتٍ لصدمات ثقافية عكسية، وهي الحالة التي تصيب المغترب العائد إلى وطنه بعد تعوّده على نمط حياة جديد، فبعد غيابٍ طويل وشوقٍ لبلده يعود المغترب ليجد بيئته الأصلية مختلفة عما كانت عليه من قبل، ما يهدم توقعاته المرسومة في مخيّلته قبل الوصول فيعيش خيبة آمال ويبدو له كل شيء كئيباً ومنطفئاً.

 نتيجة لذلك يمرّ اللاجئ بصراعات لا تهدأ داخل رأسه، وأفكار مشوشة عن هويته التي يغلفها بلباسٍ مختلف تحايلاً حسب ما يتطلّبه الموقف، فليس باستطاعته التفاعل بلغته بشكل طبيعي أو التعبير التلقائي عن مشاعره، حيث أصبح فرضاً عليه التقلّد بعادات البلد المضيف، وأن يحاول مشابهة من حوله خشيَة استنكار اختلافه، فنرى ظهور جيل كامل مجهول الانتماء، مشوش الهوية، فقد تشكلت ذواتهم بعيداً عن بيئتهم الأساسية.

ختاماً

تبقى مسألة الهجرة واللجوء في الوضع السوري فرصة لسماع أصوات السوريين في كل مكان؛ سواءٌ من لا زال منهم يعيش في سوريا أم من هاجر إلى أوروبا، لكنهم بحاجة لجهودٍ منظّمة تداوي جراحهم، وتصقل إمكاناتهم وتعززها ليعلوَ دَويُّ أصواتهم وتُركَّز جهودهم لتصب في صالح الجماعة.


[1] Syria Refugee Crisis Explained, USA for UNHCR, 28/07/2022, https://tinyurl.com/yvpddsa4
[2] The destruction you cannot see, Syria Relief, March 2021, https://tinyurl.com/Syriar
[3] بحث لجامعة مرمرة حول الصحة النفسية للأطفال اللاجئين، Hukuki Haber, 01/05/2018, https://tinyurl.com/Hukukber
[4] Prevalence of Mental Distress Among Syrian Refugees in Germany, Frontiers in Psychiatry, 2017, https://tinyurl.com/Bynby
[5] Syrian refugees: A mental health crisis, World Bank Blogs, 24/05/2016, https://tinyurl.com/Worldban
[6] Netherlands: 41 pct of Syria refugees bear mental scars, Anadolu Agency, 01/06/2018, https://tinyurl.com/Baatr
[7] SUICIDES vs. RESOURCES, Comparing Mental Health Resources with Suicide Rates Worldwide MentalHelp.Net, https://tinyurl.com/Menatybe
[8] Refugees and suicide: a growing problem in Germany, Info Migrants, 27/06/2017, https://tinyurl.com/Growinb
[9] Northwest Syria: High number of suicide attempts and deaths, Save The Children, 29/04/2021, https://tinyurl.com/Sharplyn
مقالات الكاتب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى