قراءة في كتاب “قواعد للراديكاليين”

يعدّ الناشط الأمريكي ساول ألينسكي أحد أهم مؤصلّي قواعد الحراك والتنظيم الشعبي حول العالم في العصر الحديث، ويعدّه البعض النظير المضاد لماكيافيلي السياسي الإيطالي الشهير الذي أصّل وكتب قواعد الحكم الاستبدادي، وما يزال إرث ألينسكي قائمًا حتى اليوم في العديد من دول العالم.

ونظرًا إلى تاريخ ألينسكي الكبير في التنظيم الشعبي والنشاط السياسي، فقد كان كتاب “قواعد للراديكاليين” عصارة خبرته وتجاربه التي عاشها طوال حياته في هذا المجال، خاصة أنه توفي بعد أشهر قليلة من كتابته.

تبنّى الكتاب وجهة نظر براغماتية مادية للعالم، ودعا الراغبين في العمل التنظيمي للاحتذاء بها إن أرادوا تحقيق نتائج فعلية على أرض الواقع.

في الفصل الأول تناول الكتاب مجموعة من الأفكار الأساسية عن طبيعة العالم والتقسيمات الطبقية الموجودة فيه، وكانت الفكرة الأساس هي أن العالم ساحة صراع سياسي لا يتحرك أفرادها إلا وفق مصالحهم الشخصية البحتة، مضيفًا أن الأخلاق هي مجرد مبررات للتحايل من أجل تحقيق هذه المصالح.

وانتقل الكاتب بعد ذلك إلى الفكرة الأساسية الثانية، والتي تقول إن العالم معقّد بشكل كبير، ولا وجود فيه لنهايات سعيدة أو حزينة. كما إن أي حل لأي مشكلة فيه سيُظهر مشكلات جديدة باستمرار. وأكّد الكاتب على أن العالم مكون من الثنائيات، أي أن ما نعدّه إيجابيًا سيكون سلبيًا في نظر آخرين، وهذا يعني أن أي ثورة لا بد أن تواجه ثورة مضادة.

تحدث الكاتب بعد ذلك عن طبقات المجتمع، وقسّمها إلى 3 أقسام هي:

  1. المالكون: هم الذين يملكون القوة والموارد، وهم دائمًا ما يكونون أقلية من ناحية العدد، ودائمًا ما يعارضون أي تغيير ويحاولون الحفاظ على الوضع القائم بكل ما أوتوا من قوة.
  2. غير المالكين: هم الأغلبية العظمى من المجتمع في العادة، وهم كالجمر المتوقّد قد يشتعلون في أي لحظة في وجه المالكين. هؤلاء يكرهون النظام الذي أسسه المالكون بكل ما يحويه من شرطة وقضاء وقانون وأخلاق. وقوتهم الوحيدة هي أعدادهم الكبيرة.
  3. مالكو القليل وطالبو المزيد: هؤلاء هم الطبقة الوسطى، دائمًا ما يحاولون الحفاظ على القليل الذي يملكونه مع دعم التغيير للحصول على المزيد. دائمًا من يختارون الطريق الأسلم.

وختم الكاتب هذا الفصل بالدعوة لاعتماد المشاركة السياسية والاقتصادية نظامًا جديدًا، وإلا فإن البديل سيكون الجوع للفقراء والرعب للأغنياء بسبب خشيتهم من هبّة المحرومين ضدهم واستيلائهم على كل ثروتهم وأملاكهم، مؤكدًا أن المشاركة أكثر الطرق عمليّة لاستمرار الحياة.

وتطرق ألينسكي في الفصل الثاني من الكتاب إلى قضية الوسائل والغايات وارتباطها بالأخلاق، وأكد على ضرورة اعتماد رؤية براغماتية استراتيجية، وأن ينظر إلى الغايات من ناحية إمكانية تحقيقها وثمن تحقيقها، وإلى الوسائل من ناحية عملها وفاعليتها، مؤكدًا أنّ الحياة فاسدة بطبعها، وأنه يجب التلوث بهذا الفساد أحيانًا لمساعدة الآخرين.

وعدّد ألينسكي في هذا الفصل مجموعة من القواعد المتعلقة بأخلاقية الوسائل والغايات، وهي بعمومها مأخوذة من وجهة نظر تتبنى نسبية الأخلاق وعدم ثباتها، ومن أبرز هذه القواعد:

  • الحكم الأخلاقي على الوسائل يرتبط بالموقف السياسي للشخص الحكم، وهذا يعني أن الخصم سيتهم الوسائل التي يتبعها الناشط مهما كانت بأنها غير أخلاقية، والعكس بالعكس.
  • النجاح أو الفشل هو عامل كبير في تحديد أخلاقية الوسائل. أي إن النجاح سيظهر الوسائل المتبعة بمظهر أخلاقي، وضرب الكاتب مثالًا على هذا بالثورة الأمريكية، إذ إن نجاحها أظهر قادة هذه الثورة على أنهم آباءٌ مؤسسون حاربوا الاستعمار، بينما لو فشلت لكان التاريخ سيذكرهم على أنهم خونة متمردون أفسدوا البلاد وزعزعوا الأمن والاستقرار.
  • أخلاقية الوسيلة تعتمد على تطبيقها في حال الهزيمة أو الانتصار، إذ إن استخدام الوسائل التي قد تُعدّ غير أخلاقية في حال الهزيمة وعدم وجود أي خيار آخر غيرها سيكون متقبّلًا ومفهومًا نوعًا ما، بعكس استخدام هذه الوسائل في حال الانتصار ووفرة الوسائل.
  • يجب وصف الأهداف الأساسية بكلمات عامة كـ”الحرية”، “المساواة، الخ… لا يمكن إقناع عدد كبير من الناس دون تبرير أي تحرك وربطه بأحد هذه المعاني السامية التي تلقى قبولًا بينهم.

وبعد أن استفاض الكاتب في بيان هذه القضية انتقل للحديث عن شخصية المنظّم، وعدّد خصائص اشترط وجودها في شخصية المنظّم لنجاحه في عمله، وهي: (الخبرة، الفضول، عدم الاحترام، الخيال، حس الدعابة، الأمل، الشخصية المنظمة، الفصام السياسي، الأنا، والعقلية المتفتحة الحرة).

وبالنظر إلى هذه الصفات، ربط ألينسكي بين الفضول وعدم الاحترام وحس الدعابة، وقال إنها تدفع صاحبها إلى السؤال الدائم وكسر هيبة الخصم ووسائل تهديده. كما وصف الفصام السياسي بأنه الجمع بين الانحياز الكامل لصالح قضيته، مع الجاهزية للتفاوض والتوصّل إلى تسويات مع الخصم.

وأشار ألينسكي بعد هذا إلى أهمية مهارات التواصل في التنظيم المجتمعي، وحثّ المنظم على تعميق علاقته بأفراد مجتمعه كخطوة أولى من أجل سبر أغوار تاريخهم وثقافاتهم؛ ما يسهّل من عملية التواصل معهم، كما يمكّن المنظّم من الحديث عن أمور حساسة قد تكون غير مقبولة إن ناقشها شخص غريب مع أفراد هذا المجتمع.

وحثّ الكاتب المنظّمين على استخدام أساليب سهلة مبسّطة أثناء تواصلهم مع الآخرين، بالإضافة إلى ربط كل هذه الأفكار بالخبرات السابقة للمستمعين بشكل يمكّنهم من استيعابها وتطبيقها بسهولة.

في أي مجتمع يحاول المنظّم العمل معه سيواجه فيه تحدّيات مختلفة، وتبدأ هذه التحدّيات منذ أول لحظة من دخول المنظّم إلى مجتمعه الجديد. أشار ألينسكي إلى أن المنظم يحتاج إلى التعريف بنفسه وبسبب قدومه وبأفكاره الجديدة بشكل واضح لمجتمعه الجديد، وقد يكون هذا عبر إقناع الوجهاء وطلب مساعدتهم في هذا الخصوص.

وانتقل الكاتب إلى مشكلة أخرى مصيرية، وهي انعدام الثقة بالنفس عند أفراد هذا المجتمع، واختراعهم تبريرات لعدم تحركهم قبل وصول المنظم؛ ما يشكّل عامل تثبيط في هذا الحراك. ودعا ألينسكي المنظمين إلى مواجهة هذه المبررات بصراحة وتفنيدها بشكل منطقي، ومن ثم إقناع الأفراد بقدرتهم على التغيير.

وكانت من أبرز الاستراتيجيات التي نصح ألينسكي المنظمين باستخدامها من أجل رفع الثقة بالنفس داخل المجتمع هي خوض معارك صغيرة ضد خصوم ضعفاء من أجل إشعار الناس بقدرتهم على الانتصار. على أن يتم ذلك بإشراكهم فعليًا في المواجهة بشكل يطوّر من خبراتهم وشخصياتهم، وإلا فإن العملية ستأتي بنتائج معاكسة تمامًا، إذ إن تقديم المساعدة المباشرة لأي فرد يكسر كرامته ويشعره بالعجز وقلة الحيلة.

في الفصل التالي وضع الكاتب التكتيكات الأساسية التي يجب اتباعها في تنظيم المجتمعات وقيادتها، وسردها على النحو التالي:

  1. القوة ليست ما تملك وحسب، بل ما يظن الخصم أنك تملكه.
  2. لا تخرج عن إطار خبرات أفرادك. استخدام تحركات خارج إطار خبرة الأفراد يشعرهم بالفوضى والخوف والانسحاب، كما يعني هذا انهيار التواصل بين الأفراد.
  3. قدر الإمكان اخرج عن خبرات الخصم. وهذا سيُسبّب الخوف والفوضى والانسحاب في صفوف الخصم.
  4. اجعل الخصم يلتزم بقواعده الخاصة ولا يخرج عنها. إذ سيشكّل الالتزام الحرفي بها عبئًا وقيدًا على تحركات الخصم.
  5. السخرية هي أقوى سلاح. من المستحيل الرد على السخرية بشكل مناسب، وهذا سيشعل الغضب في صفوف الخصم؛ ما سيشكّل نقطة إيجابية لصالحك.
  6. التكتيك الجيد هو الذي يعجب أفرادك. إن كان الأفراد لا يستمتعون بتطبيق التكتيك فهذا يعني وجود أمر خاطئ في العملية.
  7. التكتيك الذي يستمر طويلًا يصبح عائقًا. التكرار والاستمرار على الوسائل نفسها يبث الملل في نفوس الأفراد، ويجعل العمل التنظيمي بليدًا ورمزيًا دون فاعلية حقيقية.
  8. استمر بالضغط. يجب أن تتنوع الوسائل وتكون متتالية لزيادة الضغط على الخصم.
  9. التهديد غالبًا ما يكون أخطر من الشيء نفسه.
  10. طوّر عمليات تحافظ على الضغط المستمر. الفعل يسبب ردّ فعل، والاستمرار بالضغط باستخدام وسائل مختلفة يحافظ على استمرارية الفعل.
  11. الاستمرار بالضغط نحو شيء سلبي سينتج في النهاية العكس.
  12. ثمن الهجوم الناجح هو بديل بنّاء. لا يجب الاتفاق على تسوية مع الخصم بشروطه هو، بل يجب أن يجهز المنظّم شروطًا بديلة للمساومة عليها.
  13. اختر الهدف وثبّته واستخدمه في الاستقطاب. في ظل تعقيدات الحياة يصعب جمع وتوحيد الناس إلا في ظل وجود هدف واحد محدّد وواضح يجمعهم معه أو ضده. لذا يجب تحديد الهدف بدقة والتركيز عليه، رغم كل المشتتات واستخدامه وسيلة للاستقطاب بشكل يجمع الأنصار حولك.

سلّط ألينسكي الضوء بعد ذلك على أهمية السجن بالنسبة للمنظم. وقال إن المنظم يحتاج إلى فرصة للاختلاء بنفسه لمراجعة أفكاره وأهدافه واستراتيجياته من وقت لآخر، وإن السجن هو أنسب مكان للقيام بهذا، لأن المنظّم لن يتمكن من العثور على الوقت والمكان المناسبين في حريته بسبب انشغاله واختلاطه بعدد كبير من الناس.

وإلى جانب هذه الميزة، يُضفي السجن هالة من الاحترام والحب على المنظّم بين أفراد مجتمعه، ويزيد من ارتباطهم به ودفاعهم عنه، وقد يشكّل السجن حلًا جيدًا لمشكلات تزعزع العلاقة بين المنظّم وأفراد مجتمعه بحسب ما كتب ألينسكي.

إلا أن الكاتب لم ينصح بالمغامرة ودخول السجن لفترة طويلة، إذ إن السجن الطويل يعزل المنظّم عن عمله، ويفصله عن مجتمعه الذي سيسعى بطبيعة الحال للالتفاف حول قيادات جديدة لإكمال المسيرة.

وفي ختام الكتاب أشار ألينسكي إلى ضرورة إقناع الأغلبية الصامتة من الطبقة المتوسطة في أي تنظيم أو حراك، إذ إن التحرك دون إقناع هذه الفئة لن يشكّل ضغطًا قويًا يمكّن الحراك من تحقيق أهدافه.

بشكل عام، قد يرى البعض تطبيق ما جاء به هذا الكتاب في بلدان منطقتنا أمرًا صعبًا في ظل اختلاف الأوضاع السياسية والثقافية والأمنية بين بلدان العالم الثالث وأمريكا والدول الغربية، إلا أنه لا يخلو من أمور قد تفيد في العمل التنظيمي للحراكات الشعبية، خصوصًا أن الكاتب أشار إلى نقطة اختلاف الأوضاع والظروف، قائلًا إنه لا توجد تجربة تتكرر مرتين، وإن على المنظّم العمل بشكل متوافق مع ظروف بيئته لتحقيق أهدافه بشكل تدريجي.

مقالات الكاتب

بكالوريوس في قسم الفلك وعلوم الفضاء من جامعة أنقرة، مهتم بالشأن التركي وعلاقته بقضايا اللاجئين السوريين وقضايا السورية، ونشر وشارك في إعداد عدد من التقارير والمقالات حول هذا الموضوع ضمن الوحدة المجتمعية في مركز الحوار السوري

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى