في اليوم العالمي للغة العربية .. كيف يبدو وجه شام العروبة؟

مما يستوقف قارئ “في سبيل الإصلاح” للطنطاوي؛ وحريٌّ بكل شُداة الإصلاح أن يدقّقوا فيه إذ إنه أشبه ما يكون بدستور إصلاحي كتبَه الطنطاوي وهو شابّ يتفجّر رغبةً بالإصلاح: آخر مقالة فيه كتبَها سنة 1946م يحكي قصّة فرض النشيد السوري “حُماة الديار”، فيقول: “وصحّت النيّة على وضع نشيد للجمهورية السورية، وكانت لجنةٌ وجائزةٌ، ثم عُدل عن ذلك واختِير النشيد الذي قدّمه هذا الأديب الكبير [يعني خليل مردم بك]، فلما قرأناه علمنا أنه لُوحظ باختياره اسم الشاعر ومنزلته، وأنه لهما – لا لبراعة الشِّعر – فُرض علينا هذا النشيد واحتملناه سنين”؛ ولعل الأهم في كلام الطنطاوي هو ما عقّب به على ذلك فقال: “غير أنه لا يصحّ أن نحتمله الآن وقد تمّ استقلالنا، أو قد أشرف على التمام، واستقبلنا عهداً من حياتنا جديداً، ولابد من بيان عيب هذا النشيد لنستبدل به”.

ويكأن الطنطاوي الأديب الأريب يحكي بلساننا اليوم؛ لأننا – أعني السوريين – موقنون أنه لولا فساد ذاك النشيد لَـمَا كان لنظام البعث البائد أن يتركه ويتغنّى به علينا عقوداً متطاولة، ولست هنا لأفصّل في نقد “النشيد الوطني” ذاك وضرورة الاستبدال، وإنما قفزت إلى لساني مع مناسبة “اليوم العالمي للغة العربية” جملة منه ما زالت تتراقص في رأسي “عَرِين العروبة .. بيتٌ حرام”؛ ومع موافقتي الطنطاوي في نقده البيت إلا أني أكاد أجد في تعليقه عليه بقوله: “أفنظمَه ليكون النشيد الرسمي لبني أمية” إصابةً لما أراده مردم بك بـ “عرين العروبة” في وصفه الشام.

ومع نبذ العصبية قديمها وحديثها فلا يُجادل بعروبة بني أمية ودولتهم في دمشق قديماً، ولا بتقدّم دمشق في تأسيسها أول مجمع للغة العربية عام 1919م حديثاً؛ إلا أن ذاك العَرين يئنّ اليوم وعروبته تُستباح!!

فنظام الأسد المجرم كشف سورية لحلفائه يقتصّون منها؛ لا أعني نهب السيطرة على مؤسسات الدولة، ولا نهب خيرات البلاد وسرقة ثرواتها، ولا التحكّم بقرارها في الداخل والخارج؛ بل أعني ما أباحه للإيرانيين الغزاة بأحقاد الفُرس القديمة والولي الفقيه الحديثة الحالمين بأمجاد فارس من جهة، ولأبناء الدببة الروس الحالمين بأمجاد القياصرة على ثرى الشام من جهة أخرى.

وليس فيما أقول مجازفة ولا مبالغة؛ فأما الإيرانيون فلم يغفلوا ساعة عن تقديم التغلغل الثقافي في سوريا على غيره من المسارات، حتى في ذروة حربهم مع نظام الأسد ضد الشعب السوري، كما كشفت ذلك وثائقهم أنفسهم؛ ولن يعجز متابع عن معاينة اختراقهم التعليم من عدة جوانب، أهمها:

نشر اللغة الفارسية في سوريا؛ انطلاقاً من كونها اللسان الناطق بثقافة إيران وهويتها التي تريد اختراق المجتمع السوري بها وتغييره إليها، فحيث تنتشر ميليشيات إيران العسكرية وأذرعها الدينية والاجتماعية صرت تجد اللافتات والشعارات باللغة الفارسية، مع دعم مالي لدورات تعليم الفارسية وابتزاز الناس لحضورها ترغيباً بالمساعدات. ومع مساعي إيران لنشر الفارسية في الجامعات وعبر المراكز والدورات إلا أن استهدافها الأطفال السوريين بالدورات المدعومة أخطر تلك السموم؛ فهي محاولة من إيران لفرض ثقافتها المذهبية الطائفية على الأطفال الصغار؛ مع أن اللجوء إلى غسل عقول الأطفال وتغيير تفكيرهم بطريقة طائفية وتجهيزهم ليكونوا مقاتلين في المستقبل تُصنف ضمن “جرائم الحرب الجديدة”، وهذا هو عين ما تفعله إيران بأطفال سوريا عبر معسكرات الكشّافة لإعداد أطفال سوريا جنوداً في جيش المهدي، بما لا يختلف عن معسكرات داعش!

واختراق الجامعات السورية واستقطاب كوادرها؛ عبر كثير من الاتفاقيات الفضفاضة مع كل الجامعات السورية في مختلف التخصصات، لنجد جامعات سوريا بعد ذلك مرتعاً للاحتفاليات الإيرانية بأعيادها القومية ومناسباتها الطائفية.

وافتتاح جامعات إيرانية مراكز للتجسس والتطرف، فضلاً عن كونها أوكار تخريب للعقول بسموم الطائفية البغيضة، بخلاف ما يزعمه نظام الأسد وإيران من افتتاح الجامعات بوابات للعلم والمعرفة؛ ويكفي أن بين الجامعات الإيرانية المفتتحة في سوريا “جامعة المصطفى” التي تُصنَّف واحدةً من أخطر أكاديميات التطرف الإيرانية.

وإيفاد الطلبة السوريين إلى إيران لإعداد ناطقين باسم المشروع الإيراني، على نحو ما حمل مشروعها الطائفي في سوريا لعقودٍ خريجو جامعاتها ومراكزها الدينية الأوائل كعبد الله نظام وأيمن زيتون أحد أهم دعاة المشروع الإيراني في سورية؛ فلا نعجب إن كان المجلس الأعلى الإيراني وضع خطة بعد الثورة لاستقطاب 20 ألف طالب سورية للدراسة في إيران، ولنجد بعضهم قد رجعوا مترجمين للميليشيات الإيرانية التي كانت تقتل السوريين مع قوات الأسد!

والسيطرة على المدارس وصايةً على أطفال سوريا؛ إذ أباح نظام الأسد لإيران وزارة التربية فوقّعت مع الجانب الإيراني عشرات الاتفاقيات التي تضع أركان الوزارة والعملية التربوية والتعليمية في قبضة الإيرانيين من ترميم المدارس إلى تدريب الكوادر وافتتاح مدارس إيرانية، في مقابل دخول إيران مع ذلك في تغيير المناهج وإدراج اللغة الفارسية ثمناً للدعم الإيراني في مجال التربية والتعليم؛ وما أقساه من ثمن تُطعن به “عرين العروبة” في لغتها وثقافتها، لتغيير هويتها ومحو تاريخها الذي كانت فيه الشام شامة في العربية وعلومها.

وإن كانت روسيا قد تأخرت في التدخل العسكري السافر إلى جانب نظام الأسد ضد الشعب السوري حتى أيلول 2015، ثم تقدمت فأوغلت في دماء السوريين وتدمير مدنهم؛ فهي الأخرى لحقت بالإيرانيين في السباق لتحقيق وجود طويل الأمد لها في سوريا، مما لا يمكن أن يتم دون تمهيد تدميري للغة سوريا وثقافتها؛ لنجد قوة روسيا الناعمة التي فشلت بها في دول أخرى لغلبة الطبع على “الدب الروسي” تنبعث بقوة على الأرض السورية.

فيعلن نظام الأسد إدخال اللغة الروسية لغة رسمية في المناهج الدراسية بتباهٍ أحمق، ثم ليُفاخر بعشرات الاتفاقيات توقعها وزارة التعليم العالي مع الجامعات الروسية التي تنافس الجامعات الإيرانية الأخرى في الفشل والفساد، مع مضاعفة أعداد الطلاب السوريين الموفدين إلى روسيا للدراسة؛ رغم أنهم يعانون مشاكل مالية قاسية تفضح الصفقة الروسية الأسدية في الرغبة بإعداد جيل من حملة المشروع الروسي دون أن يقوى أي من الطرفين على سداد فاتورة ذلك، ولنجد الروس ينشرون مراكز لتعليم الروسية كأنهم يغالبون بها مراكز تعليم الفارسية؛ مع اتفاق طرفَي الإجرام على النيل من لغة أبناء سوريا وثقافتهم.

فهل سينجحون؟

قد يدفع التدقيق في الأسباب المادية عند التفكير بالإجابة إلى شيء من اليأس، على نحو ما يدفع الحماس الأجوف إلى شيء من السذاجة؛ ولعل – التعقّل المفقود في كثير من أحوال السوريين – يؤكد خطورة ما تفعله روسيا وإيران على مستقبل سوريا وشعبها عبر استهداف لغتها وثقافتها، وهو ما يؤكد في المقابل أكثر ضرورة النفير العام ثقافياً وإعلامياً وتعليمياً ودينياً لفضح تلك الممارسات الإيرانية الروسية، التي قد تبدو ناعمة لكنها في حقيقتها أشد خطراً من العدائية الصلبة؛ فقد تندمل جراح الأبدان لكنّ جراح النفوس والعقول تبقى لأجيال وأجيال.

مقالات الكاتب

باحث في مركز الحوار السوري، ورئيس جامعة المعالي، يحمل دكتوراه في اللغة العربية وآدابها، أكاديمي محقق في التراث، وكاتب باحث في القضايا الثقافية والفكرية. أنجز عدة دراسات ومقالات تُعنى بالوجود الإيراني في سورية، وبالتعليم والهوية الثقافية، وصدرت له عدة كتب تخصصية وإبداعية، مع أبحاث له منشورة في مجلات ثقافية ومجلات علمية محكَّمة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى