إخفاء الهوية ظاهرة عند الطلبة السوريين في تركيا

بينما تكون الهوية الوطنية عنصر اطمئنان نفسي ومصدر للتباهي والتفاخر بعراقة وتاريخ البلد التي ينتمي إليها الإنسان، إلا أنها قد تكون مصدر اضطراب وتخوف عند البعض، كما هو الحال عند بعض الطلبة السوريين الذين يتابعون دراستهم في الجامعات التركية.

الهوية الوطنية:

تُعرف الهوية الوطنية لغوياً بأنها المعالم والخصائص المميزة والأصالة التابعة لتلك الهوية.

أما اصطلاحاً فالهوية الوطنية بحسب تعريف الطبيبة عبير بسيوني رضوان في كتابها “أزمة الهوية” فهي الهوية الجمعية أو الوطنية أو القومية التي تدل على ميزات مشتركة أساسية لمجموعة من البشر تميزهم عن مجموعات أخرى. وقد يختلف أفراد المجموعة في عناصر أخرى لكنهم يتشابهون بالميزات الأساسية التي كونتهم كمجموعة. وأهمها اشتراك الشعب أو المجموعة في الأرض، اللغة، التاريخ، الحضارة، الثقافة، الطموح وغيرها.

إخفاء الهوية من أجل معاملة أفضل:

في سؤال طُرِح على عدة طلاب سوريين يتابعون دراستهم في الجامعات التركية، قال بعضهم إنهم يعتمدون بنسبة كبيرة على إخفاء هويتهم السورية، عن طريق الادعاء بأنهم من جنسيات أخرى كي يحظوا بمعاملة أفضل، وليتجنبوا الأسئلة المتكررة من قبل الأتراك مثل “متى وهل ستعودون إلى بلادكم، لماذا لا تحاربون في بلادكم وغيرها الكثير من الأسئلة في سياق الإشاعات التي تلاحق السوريين في وسائل الإعلام التركية كتلقيهم للمنح والمعاشات وطريقة دخولهم للجامعات من دون الخضوع لأي امتحان”.

فيما قال البعض الآخر إنهم لا يتنكرون بجنسيات أخرى لكنهم في ذات الوقت لا يُفصحون عن هويتهم إلا إذا سُئلوا عنها كي يتجنبوا المواقف العنصرية. وغالباً ما يبتعدون عن النقاشات التي تُفضي للإفصاح عن هويتهم بحسب طبيعة الأشخاص الذين يحاورونهم أو المكان الذي يتواجدون به.

قسم كبير من الطلاب أيضاً قالوا إنهم لا يخفون هويتهم السورية أبداً وهم في استعداد لمواجهة ردة الفعل أياً كانت.

وبسبب تمكن طلاب الجامعات من اللغة التركية واندماجهم نسبياً في المجتمع التركي فإن قدرتهم في تجنب تلك الأسئلة والمواقف العنصرية تفوق قدرة الفئات الأخرى من اللاجئين السوريين.

الهوية السورية عند طلاب المدراس مشكلة أكثر عمقاً:

تجنب الأذى اللفظي أو السلوكي أو نيل معاملة أفضل هو غاية معظم الطلبة الجامعيين من إخفاء هويتهم الوطنية. ومع ذلك فإن لهذه المشكلة وجه أكثر تعقيداً كان من نصيب الطلبة السوريين الأصغر سناً ممن ولدوا أو قضوا معظم طفولتهم في تركيا.

وتُلاحظ زيادة حالات التنمر على طلبة المدارس بشكل متزايد في السنوات الأخيرة مع ارتفاع حدة خطاب الكراهية من قِبل بعض الشخصيات التركية العامة نحو اللاجئين السوريين وانتشار الأخبار الكاذبة حولهم.

إن التنمر وإقصاء الطالب السوري في مدرسته من قِبل زملائه، إضافةً لعدم استجابة الكادر التدريسي في كثير من الأحيان لشكاوى الأهالي بحسب أقوال عدة سيدات سوريات في هذا الشأن، أفضى إلى عدة مشاكل.

أبرز هذه المشاكل كره الطالب لمدرسته وتراجع مستواه الدراسي، خلق مشاكل نفسية لدى الطفل كالعدوانية أو الشعور بالإقصاء والمظلومية، تسرب الطفل من المدرسة بشكل مؤقت أو نهائي، وفي حالات قليلة يميل الطفل إلى عدم الاعتراف بهويته الوطنية، أو نكرانها بشكل كامل والخجل منها واعتبارها وصمة عار تقلل من امتيازاته ضمن الصف والمدرسة.

وفي إفادة لأم سورية لديها طفلين في المرحلة الابتدائية بإحدى المدارس التركية في أنقرة، تقول فيها إن أولادها ينكرون هويتهم السورية في المدرسة بعد اندماجهم بشكل كبير مع أقرانهم الأتراك، حتى إنهم يرفضون التكلم باللغة العربية في المنزل رغم معرفتهم الجيدة بها. بالرغم توبيخ الأهل الدائم فإن الطفلان لا يزالان مصران على التكلم باللغة التركية طيلة الوقت.

وإن كان نكران الأطفال لهويتهم ناتج عن عدة عوامل منها نشأتهم ضمن مجتمع مختلف يتفاعلون معه كل يوم ويندمجون فيه ويتعرفون على ثقافته من خلال المناهج الدراسية التركية التي تقوم بعض موادها على تنمية الشعور القومي للطفل وتعريفه بثقافة بلده عن كثب، واتقان الأطفال للغة التركية التي تقربهم أكثر فأكثر إلى مجتمعهم الجديد، مما يولد شعور الانتماء لديهم، برغم الاختلاف بينه وبين مجتمع الطفل وحياته داخل المنزل مع أسرته وأقاربه، إضافةً إلى عدم معرفة الأطفال السوريين بقضيتهم ووطنهم وتاريخهم وحتى أسماء مدنهم.

كل هذه العوامل على تنوعها وتباينها شكلت حالة تُنذر باحتمالية نسيان أو تناسي الأجيال القادمة من السوريين لقضيتهم الأولى وثورتهم في وجه النظام الشمولي الديكتاتوري الذي تسبب في هجرتهم واقصائهم عن بلادهم. وحالة تستوجب الوقوف عندها والتأمل في إيجاد الحلول لها، سواء على صعيد النكران الكامل للهوية رغم قلة حالاتها، أو الاخفاء المقصود لها تجنباً للجدل والمعاملة السيئة، إضافةً إلى مشكلة سقوط اللغة العربية من أفواه أبنائها وجهل نسبة كبيرة منهم بحروفها وكتابتها وقواعدها الإملائية أو حتى نطقها الفصيح.

الإعلام البديل أداة غير مُستخدمة:

بعد أن تمكنت جميع فئات المجتمع من الوصول السهل إلى الإنترنت وأصبح الهاتف المحمول هو الرفيق الأقرب لكل فرد، أصبحت وسائل الإعلام البديلة أيضاً أكثر تأثيراً وقرباً للعامة.

ومن هنا يصبح الحديث عن أهمية الإعلام السوري البديل من حيث إنشاء محتوى يُقرب جيل القرن الواحد والعشرين السوري من انتمائه ويعرفه بوطنه وتاريخه وثقافته، ويحثه على تعلم لغته بشكل أكاديمي بعد أن اقتصر علمه بها على المحادثة فقط، أمراً أكثر فاعلية وتأثيراً.

الأطفال يحبون القصص، ولا قصة قبل النوم ولا برنامجاً كرتونياً يحاكي أطفالنا بلغتهم العربية عن بلدهم وأسماء مدنهم وملابسها وأكلاتها الشعبية.

المراهقون مشغولون بتحديات “التيك توك” والشائع في “انستغرام”، فيما تبتعد وسائل الإعلام البديل عن منصة “التيك توك”، ويقتصر محتواها في “انستغرام وفيسبوك وتويتر” على نقل الأخبار وعرض حالة الفقر والبؤس في الشمال السوري، رغم أن المراهقين بحاجة لمعرفة تاريخهم وتراثهم الشعبي والفلكلوري وعراقة أراضيهم وتاريخ قضيتهم بلغة واقعية وقريبة لهم، أكثر مما يجب أن يعرفونه عن الجانب المظلم لحياة اللاجئين اليومية وصور الدماء والدمار.

إن اندثار الهوية ونسيانها يعني نسيان قضية تلك البلد في مستقبلٍ بعيد أو ربما قريب، والقضية السورية في جوانبها كافة لا تقل أهميةً عن القضية الفلسطينية التي نجح أبناءُ مَهجرها في ترسيخها وإيصال مبادئها إلى أجيالهم المتعاقبة.

وعليه فإن إيجاد الحلول لاضطرابات الهوية والانسلاخ عن الانتماء السوري باتَ حاجة ملحة تستدعي البحث عن سُبل عملية وممكنة تحاكي واقع الشباب والأطفال وتقتربُ منهم بمصداقية وشفافية، بعيداً عن شعارات رنانة وخطابات نارية رددتها الأجيال السورية في ظل حكم البعث على مدى عقود بكل إمعان وبعروق منتفخة وأصوات عالية صادحة، ومع هذا لم يفلح كل ذلك الانفعال في تمكين وتمتين مفهوم الوطن والانتماء في ضمائر نسبة لا يُستهان بها من أبناء الشعب السوري سواءً داخل الحدود السورية أو خارجها.

مقالات الكاتب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى