التطبيع مع الأسد.. خطوط حمراء في الطريق إلى دمشق

خلال الأيام التي أعقبت الزلزال المدمر في سوريا 6 شباط الماضي، ساد اعتقاد عام لدى المتابعين للشأن السوري، بأن تلك الهزّات العنيفة لطبقات الأرض، فتحت لبشار الأسد أبواب الخلاص من العزلة المفروضة عليه وعلى نظامه منذ أن اتخذ قراره الشهير: “أحكمكم أو أقتلكم”.

طائرات المساعدات العربية لم تتوقف عن الهبوط في مطاري دمشق وحلب، مُرسَلةً ليس من دول معروفة بصداقتها لدمشق كالجزائر والإمارات وعُمان، إنما شمل الأمر طائرات من السعودية وتونس والأردن، وقد يبدو هذا الأمر قابلاً للفهم أمام طائرات أوروبية هبطت لأول مرة منذ العام 2011 على مطار تابع لنظام الأسد.

وتحت باب “التضامن الإنساني” و”دعم السوريين” في مواجهة كارثة الزلزال، بدأ الحديث عن “مبادرة عربية” لإعادة العلاقات مع الأسد، وبدأت بعض الدول التي تردّدت سنوات في إعادة العلاقات مع دمشق، إلى رفع صوتها بتقوية التمثيل الدبلوماسي، كما فعل الرئيس التونسي قيس سعيد.

سبق هذه الأخبار بأسابيع، أنباء استقبلها السوريون الذين عانوا من آلة القتل الأسدية خلال اثني عشر عاماً بالكثير من الإحباط، تتعلق باقتراب عودة العلاقات بين تركيا ونظام الأسد، وبدء اجتماعات تمهيدية لإمكانية حصول لقاء بين الرئيس التركي وبشار.

الواقع أن قطار التطبيع مع الأسد لم يتحرك عقب الزلزال، إنما بدأت حركته على سكّة دمشق في نهايات العام 2018، حين قرّرت الإمارات افتتاح المحطة الأولى، وتبعتها البحرين وعُمان؛ حينها كان دونالد ترامب سيداً للبيت الأبيض، وكانت واشنطن أعلنت قبل أيام من التطبيع إقرار مجلس الشيوخ “قانون قيصر”، وحينها أكدت واشنطن للراغبين بالمضي في التطبيع: “إياكم”.

ثم تكرّر بعد ذلك الحديث عن محادثات أمنية سرّية سعودية مع مسؤولين تابعين لنظام الأسد، والحديث كذلك عن محادثات لعودة دمشق إلى الجامعة العربية، وسط رفض لدول عربية على رأسها قطر، ليظهر أثناء ذلك السفير السعودي في الأمم المتحدة ويؤكد أن الرياض ليست بصدد عودة العلاقات مع دمشق طالما أن الأسباب التي أدت للقطيعة لم تنتهِ، الأمر الذي كرره الأمين العام لجامعة الدول العربية “أحمد أبو الغيط”.

الحديث عن التطبيع مع الأسد إذاً ليس بالجديد.. الجديد في نسخته الأخيرة أنه لم يأتِ بسبب تنازلات قدمها نظام الأسد، أو بسبب سيطرته وحلفاؤه الكاملة على معظم الأراضي السورية، أو بسبب حاجة الدول العربية إليه اقتصادياً، أو أمنياً، وليس كذلك بسبب الزلزال الذي أصاب مناطق شمال غرب سوريا، إنما بسبب الزلزال السياسي الذي أحدثته الحرب في أوكرانيا بخارطة التحالفات والتوازنات على الخارطة العالمية عموماً، وفي الشرق الأوسط خصوصاً.

المتابع للأخبار المتواترة حول اقتراب فكّ عزلة الأسد، ظنّ أن الأمر لن يستغرق أياماً أو أسابيع حتى نرى صور بشار بجانب رؤساء ومسؤولين كان بالأمس القريب يعدُّهم ألدَّ الأعداء لنظامه، غير أن هذا الاعتقاد لم يلبث أن اختلف سريعاً بعد جملة من الخطوط الحمراء في الطريق إلى دمشق.

مبادرة “الشروط الصعبة”:

السعودية التي قادت -مع مصر والإمارات- ما بات يُعرف بـ “المبادرة العربية”، لم تكن لتقدّم طوق النجاة مجاناً للديكتاتور السوري، إنما وضعت شروطاً مقابل ذلك، تحدثت عنها صحيفة “وول ستريت جورنال الأمريكية” مؤخراً، وقالت إن الشروط تضمّنت أن يتعاون الأسد مع المعارضة السياسية السورية، وأن يقبل نشر قوات عربية لحماية اللاجئين العائدين، ويتعهد بإيقاف عمليات تهريب المخدرات عبر الحدود، والأهم هو أن يطلب من إيران التوقّف عن توسيع وجودها في سوريا.

اللافت أن المبادرة لم تتحدث ضمناً عن الالتزام بالقرار 2254، ولم تذكر أي صيغة للانتقال السياسي، وهذا ما يوحي أن المبادرة تقدّم التطبيع للأسد على طبق من ذهب، إضافة إلى التعهّد بتقديم أموال من أجل إعادة الإعمار، غير أن الواقع هو أن الشروط الموضوعة على طاولة الأسد لا تقل صعوبة عن شروط الانتقال السياسي، فبشار يعلم جيداً أنه غير قادر على تلبية كثير منها، ولا سيما ذاك المتعلق بكفّ يد إيران في سوريا، وهو الذي يعلم أنها باتت تتغلغل بنظامه بشكل يصعب معه الفصل أو القدرة على تحييد نفوذها.

أنقرة ودمشق.. “الثقة الغائبة”:

ملف التطبيع بين تركيا والأسد يبدو أكثر تعقيداً من التطبيع العربي، في ظل الثقة شبه المعدومة بين الجانبين، رغم محاولات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين جسرَ الهوةِ بين طرفين يدخلان في حرب بادرة وأحياناً ساخنة منذ 12 عاماً.

على المنوال السابق، التقط المتابعون التصريحات التركية حول الرغبة بالتقارب مع الأسد لحلّ مشكلة أمن الحدود وقضية اللاجئين، غير أن سخونة التصريحات قابلها على أرض الواقع برود التنفيذ بين الجانبين، حتى وصل الأمر إلى ما يشبه الفشل في المضي في المحادثات على مستويات أعلى، حيث انخفض مستوى التمثيل بين الجانبين أخيراً من وزراء خارجية إلى نواب وزراء خارجية، ثم أعقب ذلك إعلان الجانب التركي تأجيل اللقاء الذي كان مقرراً في يومي 15 و 16 آذار مارس الجاري، إلى إشعار غير محدد، على خلفية شرطين وضعها الأسد يشير بهما إلى عدم نيته الجلوس على طاولة تفاوض حقيقية، وهي الانسحاب التركي من الشمال السوري، ودفع تعويضات مالية، بينما كانت أنقرة حسمت الشرط الأول على لسان وزير خارجيتها قبل أي تفاوض: لا انسحاب من الشمال السوري قبل تحقيق حل سياسي واستقرار.

خط أحمر أمريكي وأوروبي:

وعلى الجانب الأكثر تصعيداً من هذا وذاك، يبدو الصوت الأمريكي والأوروبي الأعلى في الساحة الدولية حول مبدأ التطبيع مع الأسد، ولا تزال واشنطن كلما لاحت بوادر هذا التطبيع عربياً أو تركياً تردد نفس المقولة، وهي أنها لا تدعم التقارب مع دمشق في هذه المرحلة، وتحذّر من أي محاولة لإعادة إنتاج بشار، المستمر في نفس ممارساته منذ العام 2011.

قالت حكومات كل من المملكة المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا وألمانيا، في بيان مشترك “بمناسبة الذكرى الثانية عشرة للانتفاضة السورية”، إنها لن تطبّع العلاقات مع نظام الأسد، ولن تدعم تمويل إعادة الإعمار أو ترفع العقوبات عنه.

وكان مجلس النواب الأمريكي وافق في 28 شباط فبراير الماضي، بأغلبية ساحقة على نص قرار ينبغي تمريره من مجلس الشيوخ، قبل إقراره من الرئيس الأمريكي جو بايدن، ينص على محاسبة كل من يطبّع مع نظام الأسد[1].

وهذا ما يعني بشكل نهائي نسف أي محاولة لإعادة إنتاج بشار الأسد عربياً أو إقليمياً، في تكملة لمسيرة قانون قيصر الذي يحظر التعاون معه اقتصادياً أو عسكرياً.

الخلاصة أنه رغم الإشارات المتواصلة إلى إمكانية إعادة إنتاج الأسد عبر مبادرات أو اتفاقات فردية أو محورية، فإن تلك المهمة تصطدم بعدة عوائق ذاتية وموضوعية، تبدأ من عدم قدرة نظام الأسد على تلبية أي شروط تخصّ تغيير سلوكه أو تقليم أظافر إيران في مناطق سيطرته، ونهايةً بالموقف الأمريكي الرافض – حتى الآن على الأقل- أي جهود تؤدي إلى إعادة شرعنة بشار، مروراً بعامل أهم من هذا وذاك وكل ما سبق، وهو أن غالبية السوريين (بمن فيهم الكثير من القاطنين تحت سيطرة الأسد) لا يزالون ينظرون إلى أي طرف يحاول تنظيف يد قاتلهم على أنه مشارك في المجازر ضدهم، وهذا ما لا يمكن غفرانه لا على الجانب الأخلاقي، ولا على الجانب السياسي أيضاً.


الموقع الإلكتروني | مقالات الكاتب

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. وهل ذهب قانون المخدرات وقانون قيصر و2254 في مهب الريح إذا كان ذلك فإن كل من يطبع مع النظام المجرم بشار فهو شريكه في كل الجرائم ولا يختلف عنه شيء وكلهم يمارسون الديكتاتورية وممنوع على الشعوب ممارسة الديمقراطية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى