بيدرسون والخطوات المتوَهَمة
ربما ليس بجديد ما أتى على ذكره المبعوث الأممي الخاص إلى سوريا “غير بيدرسون”، في تصريحات الأخيرة لصحيفة الشرق الأوسط وتبنّيه استراتيجية قائمة على مبدأ “خطوة مقابل خطوة”، بعد فشل أطروحاته السابقة في حلحلة كرة الصوف السورية التي تحولت من قضية سورية إلى ملف دولي وعقدة صعبة الحل في وجه المبعوثين الثلاثة السابقين، إلا أن الجديد تسلّحه بدعم وصفه بالصلب من مجلس الأمن وتفاعل إيجابي من قبل الفاعلين الأكثر تأثيرا في الملف السوري، روسيا والولايات المتحدة لصالح اختبار خطته التي يقول إنها تهدف إلى تطبيق قرار مجلس الأمن 2254.
الانتقال السياسي لطالما مثَل القضية الجوهرية لمسار الحل السياسي الأممي منذ جنيف1، وهو ما أكده قرار 2254، وبقيت فكرته حاضرة في الوثائق والتصريحات الرسمية. إلا أنه مع تحول مدخلها من “هيئة الحكم الانتقالية” إلى “اللجنة الدستورية”، بدأت المواقف الدولية في التذبذب التدريجي لتقترب من “الرؤية الروسية”، والقبول بتقديم سلتَي الدستور والانتخابات على مدخل “هيئة الحكم الانتقالية”، بيد أن أربع أعوام تخللها ست جولات للجنة الدستورية لم يرشح عنها أي تقدم في خطة بيدرسون التي بدأها بنظرة تفاؤل واختتم آخر جولاتها بخيبة أمل عبر عنها في تصريحاته.
خطة بيدرسون الجديدة رغم أنها تتقاطع بشكل كبير مع اللا ورقة الأردنية التي تضمنت عدة بنود من بينها العمل على تغير سلوك نظام الأسد عبر تقديم الحوافز له، إلا أن مقاربته إلى الآن لا تزال في مرحلة العصف الفكري كما يقول، وقد تشمل ملفات عدة كالمعتقلين والمفقودين، وملف المساعدات الإنسانية والتعافي المبكر ومحاربة الإرهاب، والعودة الآمنة والكريمة والطوعية للاجئين، مفردات يأتي على ذكرها لتعزيز موقفه ودعم مبادرته وحماية خطواته التي ستضيع ربما كما ضاعت سلل ستيفان دي مستورا في أروقة جنيف، فخطواته وإن كان المراد منها حل المشكلة السورية على حساب السوريين كما هندسها الروس، لكنها ستصطدم عاجلا أو آجلا بتعنت نظام الأسد وحلفائه الذين يريدون فرض الاستسلام على السوريين، كي يقبلوا بإعادة تأهيل بشار الأسد، من دون أي مساءلة عن الجرائم التي ارتكبها خلال عقد كامل ويزيد.
أما نظام الأسد الذي أعلن رفضه لهذه المقاربة، ويسعى بيدرسون لإقناعه بشتى الطرق، يدرك تماما أن أي تغيير جزئي سيقود بالنهاية إلى سقوطه بالكامل، ليس ذلك وحسب، فإعلان النظام أن عودته للجامعة العربية ليس أولوية، وتوسيع نطاق سلطته الأمنية، واستمراره في حملات التسوية، وعرقلته لجميع مسارات الحل السياسي، هي خطوات يدرك نظام الأسد أنها الوسيلة الوحيدة لبقائه في السلطة.
محاولة الهروب إلى الأمام ربما هي أدق التوصيفات لمسارات الحل التي يبتكرها المبعوث الأممي إلى سوريا غير بيدرسون، فمقاربته الأخيرة، وإن حملت اسماً جديداً، إلا أنها طُبقت سابقا؛ فانتخاب نظام الأسد ضمن المجلس التنفيذي لمنظمة الصحة العالمية، وإعادة إدراجه ضمن الإنتربول الدولي، وتخفيف العقوبات الأمريكية عليه لـ “أسباب إنسانية”، واتخاذ خطوات لتنشيط قطاع “التعافي المبكر” في المناطق التي يسيطر عليها، والاتصالات والزيارات التي قام بها بعض مسؤولي الدول العربية، كلها خطوات اتخذت في مجال إعادة تعويم النظام، وتنازلات لم يقابلها نظام الأسد إلا بالتجاهل وتعطيل المسار الوهمي القائم في جنيف، والمتمثل في اللجنة الدستورية.
يحسب لنظام الأسد وحلفائه الروس أنهم استطاعوا إيهام الدول أو على الأقل الرأي العام الدولي، أنهم اتخذوا خطوات في مسار الحل السياسي، والتي تتمثل في الموافقة على دخول المساعدات الأممية عبر الحدود للسوريين الذين قام نظام الأسد وحلفائه بتهجيرهم من مدنهم وقراهم، وتجميد الوضع العسكري خصوصاً في منطقة إدلب وما حولها. خطوات لا علاقة لها بالمسار السياسي، وإنما تمثل بنوداً مفروضة على نظام الأسد بنص قرار مجلس الأمن 2254 في فقراته “12-13” والتي اصطلح على تسميتها “البنود الإنسانية”، وبذلك نجح نظام الأسد وروسيا في تحويل القضايا الإنسانية إلى أوراق تفاوضية، لا علاقة لها بمسار الحل السياسي، وأصبحت الواجبات المفروضة على النظام والتي لا علاقة لها اساساً بالحل السياسي، هي “خطوات” من وجهة نظر بيدرسون يفترض بالدول أن تقابلها بتنازلات تفضي إلى تعويمه سياسياً واقتصادياً.
يبدو أن المعارضة السورية ممثلة بالائتلاف الوطني وهيئة التفاوض السورية واعية لإيهام بيدرسون، ولذلك سارعت إلى رفض المقاربة التي طرحها، معتبرة إياها خضوعاً للابتزاز الروسي والإيراني، كونها تقوم على مقايضة قضايا إنسانية هي بالأصل فوق تفاوضية، بتنازلات فعلية من قبل الدول الغربية والعربية. يعد هذا الموقف خطوة جيدة وتتطلب عدم التراخي مستقبلا لضمان عدم تكرار سيناريو اللجنة الدستورية السورية، التي عارضته في البداية، ثم انخرطت فيه، لا بل تبنته ودافعت عنه.
مع ذلك، يفترض بقوى الثورة والمعارضة ألا تقف مكتوفة الأيدي وتنتظر ما يطرح عليها من مبادرات وتقوم برفضها، بل يفترض بها السعي لطرح مبادرات جديدة يصب مصلحة تنفيذ القرارات الدولية 2254، 2118، وبيان جنيف1، وقبل ذلك اتخاذ خطوات حقيقية في مجال إصلاح البيت الداخلي وزيادة الشرعية الشعبية، وإلا ستجد نفسها، كما حصل عندما طرح مسار اللجنة الدستورية، مضطرة تحت ضغط مصالح الدول الفاعلة والمتدخلة في الملف السوري، لمسايرة هذه المقاربات الوهمية التي لن تزيد سوى معاناة السوريين، كل السوريين.
صحفي سوري، ومنتج أخبار في قناة حلب اليوم الفضائية، وباحث مساعد في مركز الحوار السوري