معالجة المشاكل التنظيمية وضرورة إنهاء تمزق قوى الثورة والمعارضة

مع وصول رياح الربيع العربي إلى سوريا عام 2011، وانخراط آلاف السوريين في احتجاجات شعبية سرعان ما اتسعت دائرتها لتعم معظم الأراضي السورية، بات هناك حاجة ملحة لأن تترجم هذا الاحتجاجات إلى حراك سياسي يعمل بالتوازي مع القوى العسكرية لإنهاء حقبة عائلة الأسد، وسياساتها القمعية والفئوية والتسلطية.

منذ ذلك الحين برزت أسماء عشرات الأجسام السياسية والتكتلات والهيئات والمنصات المعارضة؛ كهيئة التنسيق الوطنية والمجلس الوطني مروراً بالائتلاف الوطني وهيئة المفاوضات العليا وصولاً إلى هيئة التفاوض السورية، إلا أنه وعلى الرغم من التجارب المتعددة خلال ما يقارب عقد كامل، بقيت هذه الأجسام السياسية عالقة في دوامة النزاعات الداخلية لأسباب مختلفة من أبرزها: الاختلاف في كل من الدوافع والمصالح الشخصية، والتوجهات الفكرية والأيديولوجية، إلى جانب الانجراف خلف استقطابات دولية وإقليمية. هذا الاختلاف لم ينعكس سلباً فقط على أدائها الذاتي وإنما حتى على علاقاتها مع الحاضنة الشعبية من جهة، وعلى علاقاتها الخارجية مع الدول والمنظمات من جهة ثانية.

تمثل الخطوة الأخيرة التي قامت بها قوى الثورة والمعارضة المتمثلة في اللقاء بين الائتلاف الوطني وهيئة التنسيق الوطنية محاولة جديدة لتحريك المياه الراكدة لرأب الصدع بين الطرفين اللذين يمثلا الكتلة الأكبر في هيئة التفاوض السورية التي يفترض أنها المسؤولة عن ملف التفاوض مع نظام الأسد، وفي ظل حالة المراوحة التي تحكم مسار اللجنة الدستورية، والتي يقابلها حالياً هرولة إقليمية دولية للتطبيع مع الأسد تحت ذرائع مختلفة، وتخفيف للعقوبات التي كانت مفروضة عليه بدواعٍ إنسانية في ظاهرهاً سياسية في جوهرها.  كان الهدف من الاجتماع الذي أتى بدعوة من الائتلاف الوطني وجرى في مقره بولاية إسطنبول التركية على مدى يومين 9 و10 تشرين الثاني 2021، بحث الملفات العالقة بين الطرفين، والسؤال: ما هي طبيعة هذه الملفات التي شكلت نقطة خلاف بين الطرفين، والتي تمثل صورة لغالبية الخلافات التي تعصف بين هذه القوى وخصوصاً السياسية منها؟

بداية من الواضح أن نقاط الخلاف بين الأطراف السياسية المعارضة بشكل عام، والائتلاف الوطني وهيئة التنسيق بشكل خاص، ليست قضايا موضوعية سواء على المستوى التكتيكي أو على المستوى الاستراتيجي.

على المستوى التكتيكي، يؤكد مؤشر التوافق الوطني الصادر سنوياً عن مركز الحوار السوري وجود توافق بنسب عالية (80%-90%) في مواقف قوى الثورة والمعارضة بشكل عام، ومواقف الائتلاف الوطني وهيئة التنسيق بشكل خاص سواء تجاه الأحداث الآنية المتعلقة بالملف السوري؛ كالأحداث الداخلية الخاصة بالمناطق المحررة أو مناطق نظام الأسد، وتطورات الحل السياسي ومستجدات سياسات الدول تجاه سوريا، إلى جانب القضايا الحقوقية والإنسانية.

على المستوى الاستراتيجي، استطاع الطرفان الوصول إلى رؤى مشتركة في بياني الرياض 1 و2، وفي الإطار التنفيذي لبيان جنيف1 الصادر عن هيئة المفاوضات العليا عام 2016، حيث تضمنت هذه الوثائق خطوطاً عامة عريضة متعلقة بشكل الدولة ونظام الحكم فيها وطريقة إدارتها يمكن اعتبارها كافية حالياً بالنظر إلى السياق الذي تمر به القضية السورية.

على الضفة الأخرى، في الجانب الهيكلي، نلحظ العكس تماماً، ويبدو أن عقداً كاملاً من الزمن لم يستطع تجاوز الخلافات البنيوية والهيكلية بين الطرفين بشكل خاص، وبين قوى الثورة والمعارضة بشكل عام.

بداية الخلافات تعود إلى أساس كلا التشكيلين؛ فثنائية المجلس الوطني الذي هو أساس للائتلاف الوطني وكذلك هيئة التنسيق الوطنية في عام 2011، هي في إحدى تجلياتها انعكاس لهذه الخلافات، ثم إن كل جسم منهما تعرض لخلافات هيكلية وبنيوية أدت إلى خروج هيئات وأحزاب وشخصيات ودخول أخرى.

مع تشكيل هيئة ممثلة لقوى الثورة والمعارضة في المفاوضات في أواخر عام 2015 وأواخر عام 2017 وعلى الرغم من وجود أساس للتوافق الموضوعي “بيانا الرياض 1-2″، عادت الخلافات الهيكلية بين الطرفين مع إثارة مشكلتي “المستقلين” وآلية إصدار القرارات، و اللتين تسببتا بتجميد هيئة التفاوض السورية وفشل اجتماعاتها، ووقف الدعم عنها مؤخراً بعد إرسال رسائل من قبل “منصة موسكو، منصة القاهرة، وهيئة التنسيق” إلى المبعوث الأممي غير بيدرسون تطالبه بحل الانقسام داخل الهيئة.

كل ما تقدم يؤكد فرضية أن المشاكل الهيكلية والبنيوية، كانت حجرة عثرة في طريق تحقيق التوافق بين قوى الثورة والمعارضة، وأحد أسباب فشلها في كسب اعتراف قانوني من المجتمع الدولي، وشرعية من قبل الحاضنة الشعبية. ليس ذلك فحسب، بل حتى أن هذه المشاكل كانت مشكلة أساسية داخل الأجسام السياسية نفسها؛ فعلى سبيل المثال، يواجه الائتلاف الوطني مشكلات تتعلق بمأسسة هياكله وتحقيق التمثيل في الكتل وعدد المقاعد في الهيئات الثلاثة الرئاسية والعامة والسياسية، ولا تزال الكثير من الأصوات تطالب حتى اليوم بإعادة هيكلته.

التركيز على العامل التنظيمي لا يعني التقليل من وزن العوامل الأخرى، وأثر سياسات الدول، وضغط النزاعات الإقليمية ودورها في زيادة الفجوة بين القوى السياسية، فجميع العوامل تتداخل فيما بينها مولدة دينامية تدفع القوى للخصام والانقسام والتنافس، لكن الفشل في تنظيم قيادة سياسية- بغض النظر عن أسبابه و منطقيته في الظروف الحالية- تجمع القوى المتناثرة وتوحدها وتنتزع المبادرة وتوجه مسار الثورة وخياراتها، قاد إلى تعزيز دور العوامل الأخرى.

لذلك نعتقد أن غالبية الجهود يفترض أن تتوجه لمعالجة هذه المشكلة أكثر من التركيز على التوافق الموضوعي عبر استخدام عدة أدوات من أبرزها: تفعيل الحوارات الدائمة، واستخدام أدوات إدارة الخلاف، والاستعانة بمقاربات متعددة للعمل المشترك مثل: التنسيق والتعاون وتبادل الأفكار بما يساعد على بناء الثقة بين الأطراف تراكمياً، وبعيداً عن الإعلانات الشعاراتية لتشكيل أجسام مشتركة أو قيادة مشتركة.

مقالات الكاتب

صحفي سوري، ومنتج أخبار في قناة حلب اليوم الفضائية، وباحث مساعد في مركز الحوار السوري

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى