أقلام المنتدى

قراءة في واقع درعا بعد سقوط الأسد وعوائق الاستقرار

تتمتّع درعا الواقعة في الجنوب السوري على الحدود مع الأردن، بأهمية استراتيجية فائقة نظرًا لموقعها الجغرافي الذي يجعلها نقطة ربط بين سوريا ودول الجوار، مما يمنحها دورًا محوريًا في التجارة وحركة العبور، كما أن قربها من الجولان المحتل يُعزّز من قيمتها العسكرية والاستراتيجية.

إلى جانب موقعها الجغرافي الحدودي، تُعتبر درعا مهدًا للثورة السورية التي انطلقت منها أولى الاحتجاجات الشعبية ضد نظام الأسد في عام 2011، ما منحها رمزية خاصة لدى السوريين.

سيحاول هذا التقرير تقديم صورة شاملة عن الواقع الحالي في محافظة درعا، من خلال استعراض وضعها من مختلف الجوانب عقب سقوط الأسد، بما في ذلك المشهد الأمني، والواقع الإداري في ظل المرحلة الجديدة، إضافة إلى رصد الأوضاع المعيشية للسكان والتحديات التي يواجهونها في ظل المتغيّرات الحالية.

درعا قبل سقوط الأسد:

قبل سقوط نظام الأسد، عانت درعا من اضطرابات أمنية مستمرة رغم محاولات “المصالحة” التي رعتها روسيا، والتي فشلت في تحقيق الاستقرار، حيث تفاقم الوضع بسبب انتهاكات نظام الأسد المخلوع والتوسُّع الإيراني، والغارات “الإسرائيلية”، وانتشار تجارة المخدرات التي تورّط فيها الأسد المخلوع وحلفاؤه، كما تصاعد العنف بفعل الاغتيالات والاشتباكات بين الفصائل المحلية والميليشيات المرتبطة بالنظام، ما زاد من معاناة السكان[1].

بعد سقوط نظام الأسد، توالت الأحداث الداخلية والخارجية نتيجة لتعقّد المشهد في المحافظة، وسنفصل هذه الأحداث بشكل متتال:

الوضع العسكري في درعا:

 بعد انطلاق عملية “ردع العدوان” في 27 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، أعلنت فصائل محلية في الجنوب السوري تشكيل “غرفة عمليات الجنوب” لضمان أمن المنطقة والانضمام لمعركة التحرير، وذلك بعد التفاهم مع “اللواء الثامن” بقيادة أحمد العودة، والذي يتألف من عناصر أجرت “تسويات” مع نظام الأسد برعاية روسية في 2018[2]، وفي 8 ديسمبر دخلت الفصائل العسكرية القادمة من درعا إلى دمشق، ثم انسحبت قوات العودة سريعًا تجنبًا لأي تصعيد غير محسوب [3].

لاحقاً، رفضت الغرفة تسليم سلاحها رغم دعوات الإدارة السورية الجديدة، لكنها أبدت استعدادها للانضمام إلى وزارة الدفاع وفق شروطها، وفي 25 ديسمبر أعلنت الإدارة الجديدة عن اتفاق مع الفصائل لدمجها، بينما بقي موقف فصائل الجنوب مُعلّقًا[4].

 الخطوة الأبرز في درعا كانت يوم 13 نيسان الجاري مع إعلان اللواء الثامن عن حل تشكيله ودمج أسلحته وعناصره تحت إمرة وزارة الدفاع السورية، وذلك بعد موجة من الاضطرابات في مدينة بصرى الشام؛ أحد أبرز معاقل اللواء شرقي المحافظة، حيث انتهت الاضطرابات باتفاق محلي سمح بدخول قوات الأمن لـ”بسط الأمن والاستقرار”[5].

جاء هذا بعد سلسلة من التطورات الأمنية المرتبطة بمقتل القيادي السابق بلال الدروبي أثناء محاولة اعتقاله من قبل عناصر من اللواء الثامن[6]، تبعه توتر ميداني تضمّن تنفيذ حملة اعتقالات من قبل عناصر اللواء الثامن، وفي هذا السياق دخلت وحدات من الأمن العام السوري المدينة رغم محاولة الفصيل منعها[7]، وتم عقد اجتماع أمني في قلعة بصرى خلُص إلى الاتفاق على نشر نقاط عسكرية وتسليم اثنين من المتورطين في حادثة الاغتيال[8]، وفي ختام التصعيد تم الإعلان عن حلّ اللواء الثامن بشكل رسمي، في إطار إجراءات هدفت إلى ضبط الوضع الأمني وإعادة تشكيل المشهد العسكري تحت إشراف الدولة[9]، الأمر الذي بدّد -ولو مرحلياً- محاولات “اللواء الثامن” خلق نموذج خاص به في المحافظة.

من جانب آخر، لم تخل العديد من المناطق في المحافظة من التوترات الأمنية وعمليات الاغتيال، من أبرزها في مدينة الصنمين شمالي درعا، ما اضطر إدارة الأمن العام إلى شن حملة واسعة في شهر مارس/آذار، استهدفت مجموعة مسلحة بقيادة محسن الهيمد، المتهمة بتنفيذ عمليات اغتيال، إضافة إلى استيلائها على أسلحة من الفرقة التاسعة بجيش النظام المخلوع عقب سقوط الأسد، أسفرت العملية عن سقوط عدد من القتلى في صفوف المجموعة، بينما استسلم آخرون، في حين تمكن الهيمد وعدد من مرافقيه من الفرار إلى جهة غير معلومة[10].

بالعموم يُوصف المشهد الفصائلي في درعا بالمعقّد، حيث يسود التردّد في تسليم السلاح، لكن عملية حل اللواء الثامن والمضي في تطبيقها قد تشكل أبرز خطوة ضمن خطوات المضي في تفكيك المجموعات غير المنضوية تحت سلطة وزارة الدفاع، وهذا ما يُمهّد للقضاء على حالة عدم الاستقرار والفوضى الأمنية بشكل تدريجي وصولاً إلى ضبط مجرمي الحرب من فلول النظام المخلوع الذين لا يُستبعد أن بعضهم يتخفون ضمن المناطق غير المنضبطة في درعا.

الانتهاكات “الإسرائيلية”:

صعّدت “إسرائيل” عملياتها العسكرية في سوريا منذ سقوط نظام الأسد، وتعرضت قواعد الدفاع الجوي السوري، ومراكز البحوث العسكرية، ومخازن الصواريخ المتوسطة والبعيدة المدى لقصف بشكل غير مسبوق[11]، وفي الجنوب سيطرت “إسرائيل” على المنطقة العازلة بشكل مباشر في يوم السقوط بعد أن أعلنت انهيار اتفاقية فصل القوات مع سوريا[12].

وسّعت قوات الاحتلال “الإسرائيلي” نطاق توغلها في الجنوب السوري؛ تضمنت هذه التوغلات دخول دبابات، جرافات، وعربات عسكرية[13]، كما وصلت القوات “الإسرائيلية” إلى أبعد نقطة داخل الأراضي السورية، حيث نفّذت إنزالًا جويًا على تلّ المال في ريف درعا الشمالي، الواقع على بُعد 7 كيلومترات من حدود المنطقة العازلة و16كيلومترًا من الجولان المحتل، كما أنشأت “إسرائيل” 9 قواعد عسكرية؛ اثنتان منها تقعان خارج المنطقة العازلة في التل الأحمر قرب كودنة ومحيط قرية معربة جنوب القنيطرة[14].

شملت العمليات “الإسرائيلية” عدة انتهاكات، أبرزها مصادرة الأسلحة من السكان في مناطق مثل معريا وعابدين، وتجريف مواقع عسكرية مهجورة على الحدود بين درعا والقنيطرة[15]، إلى جانب ذلك تم استجواب المواطنين في العديد من المناطق، حيث تم تفتيش المنازل واحتجاز البعض لفترات قصيرة، كما تم جمع استبيانات من بعض المنازل[16]، إضافة إلى مواجهات مع الأهالي في بعض المناطق[17] مما زاد من القلق بين الأهالي وزاد من تعقيد الوضع الأمني هناك[18].

كما شهد شهرا مارس ونيسان تصعيدًا ملحوظًا في طبيعة الانتهاكات “الإسرائيلية” على الأراضي السورية، تمثل في توسيع نطاق القصف ليشمل مناطق مدنية مأهولة إلى جانب المواقع العسكرية[19]، ما أسفر عن سقوط ضحايا وإصابات في صفوف المدنيين[20]، وسُجّل توغّل ميداني للقوات “الإسرائيلية” في عمق ريف درعا الغربي، تبعته مواجهات مسلّحة مع مجموعات من السكان المحليين، في تطوّر يُعدّ الأوسع من حيث الاحتكاك المباشر داخل المنطقة منذ سنوات[21].

وقد أصدرت الحكومة السورية عدة بيانات أدانت فيها الانتهاكات “الإسرائيلية”[22]، ووصفتها بالاعتداء السافر على السيادة الوطنية[23]، مطالبةً المجتمع الدولي بالتدخُّل لوقفها[24].

تتحدث التصريحات “الإسرائيلية” بشكل واضح عن رفضها لوجود “جهات إسلامية متشددة” قرب الجولان، إذ تعتبر ذلك تهديدًا مباشرًا لها، ووفقًا لتصريح مسؤوليها فإن الوجود العسكري “الإسرائيلي” في سوريا لم يعد مؤقتًا، فهي تسعى إلى إقامة منطقة عازلة تمتد عبر محافظات درعا والقنيطرة والسويداء، حيث تمّ بناء تسع مواقع عسكرية في المنطقة الأمنية[25]، ما يهدد حالة الاستقرار في جنوب غرب سوريا ويجعل المنطقة عرضة للتوترات في أي لحظة.

فوضى السلاح ومُخلّفات الحرب:

تعاني محافظة درعا من الفوضى الأمنية الناتجة عن تزايد انتشار الأسلحة وعدم ضبطها، الأمر الذي تسبّب بمقتل وجرح العديد من المدنيين، فقد تم تسجيل مقتل 36 شخصًا منذ بداية 2025حتى شهر فبراير، شكّل المدنيون 72% من العدد الكلي للقتلى[26]، في حين سجّلت المحافظة خلال شهر آذار مقتل 27 شخصًا، إضافة إلى إصابة 31 آخرين، وذلك في سياق سلسلة من الحوادث المتفرقة التي تعكس استمرار اختلال الاستقرار الأمني في المحافظة[27].

ترتبط معظم الحوادث بخلافات شخصية، أو إطلاق نار من قبل مسلحين مجهولين، أو جرائم سرقة، ويُلاحظ ازدياد استخدام الدراجات النارية في تنفيذ الهجمات. يعود انتشار الفوضى الأمنية في محافظة درعا إلى عدم ضبط الأمن بشكل كامل، حيث لم تُنشر أعداد كافية من الشرطة والعناصر الأمنية في جميع المناطق، وبرغم افتتاح مراكز لتسليم الأسلحة إلّا أنّها لم تلقَ إقبالًا كبيراً[28]، كما ساهم غياب الوعي بمخاطر السلاح في وصول الأسلحة إلى أيدي الكثيرين، بمن فيهم اليافعون والأطفال[29].

الاغتيالات وعمليات الاختطاف مستمرة:

تستمر حوادث الاغتيال في محافظة درعا، وتتنوع دوافعها بين الانتقام، تصفية الحسابات القديمة، والسرقة، فقد سُجّلت نحو سبع عمليات اغتيال في مناطق متفرقة من محافظة درعا، طالت مدنيين وعناصر محلية، من بينهم مختار إحدى القرى [30]ورئيس مخفر شرطة[31]، كما تم اغتيال دبلوماسي سابق منشق داخل منزله[32]، إضافة إلى عدّة محاولات اغتيال[33]، شملت مدنيين وعسكريين سابقين[34]، في حين استمرت حالات الاختطاف[35]، حيث تم تحرير أحد المختطفين في الريف الشمالي والقبض على أفراد العصابة[36].

تستغل العديد من العصابات وفلول الأسد حالة الانفلات الأمني في درعا لتنفيذ عمليات اغتيال وخطف عديدة، كما تم تسجيل بعض الأخطاء من أفراد من الأمن[37]، ما يتطلب تدخلًا أكثر فاعلية لضبط الأوضاع والحد من التهديدات المتزايدة.

حملات ملاحقة شبكات الاتجار بالمخدرات والمسلحين:

سعت الحكومة الجديدة إلى فرض الأمن من خلال حملات متكررة لملاحقة القضاء على بقايا الشبكات المسلحة والإجرامية[38]، كما ضبطت كميات من الحبوب المخدرة في مناطق أخرى مثل جباب[39]، في الوقت ذاته كانت هناك حملات لاستعادة العتاد والآليات العسكرية التي كانت بحوزة مجموعات مسلحةأخرى[40]، كما اندلعت اشتباكات مع عناصر تابعين لتنظيم داعش، وتمّ إلقاء القبض على أحد قياديّي التنظيم ضمن كمين محكم[41].

 وتشهد المحافظة تناميًا ملحوظًا في عمليات التنقيب غير المشروع عن الآثار، وتستغلّ شبكات تهريب محلية حالة الفوضى الأمنية لاستخراج القطع الأثرية وتهريبها إلى الخارج، تستهدف عمليات التنقيب مواقع أثرية معروفة، وتستخدم أجهزة كشف إلكترونية وجرافات، ما يؤدي إلى تدمير أجزاء من المواقع التاريخية[42].

وقد شهد شهر آذار محاولات تهريب المخدرات عبر الحدود السورية–الأردنية، تم إحباط عدة عمليات منها من قبل الجانبين الأردني والسوري، أسفرت الاشتباكات فيها عن مقتل بعض المهربين وضبط أسلحة وكميات من المخدرات[43].

الواقع الإداري لمحافظة درعا:

استمر غياب تعيين محافظ في محافظة درعا لأكثر من شهرين ونصف بعد سقوط النظام، ما أحدث فراغًا إداريًا واضحًا انعكس على أداء المؤسسات المحلية، قبل أن يتم تعيين محافظ جديد في شهر آذار[44]، وبرزت محاولات لضبط المشهد من خلال إعادة تشغيل معبر نصيب الحدودي تحت إشراف إدارة العمليات العسكرية[45]، وإنشاء إدارات محلية، مثل مجلس إدارة حوض اليرموك، وتعيين مسؤولين أمنيين في مدن رئيسية كالحراك[46] ونوى[47]، ومع ذلك لا تزال السُّلطة موزَّعة بين قيادات عسكرية محلية وشبكات المصالح العشائرية، مما يحدّ من استقلالية المؤسسات الناشئة وقدرتها على فرض قرارات موحّدة[48].

يعكس تكرار الاجتماعات بين وجهاء المدن والقادة العسكريين استمرار الاعتماد على الهياكل التقليدية كوسيط بين المجتمع والإدارة الجديدة[49]، في ظل غياب سلطة مدنيّة فعليّة، وبالرغم من الجهود المبذولة لإعادة تشغيل الخدمات العامة، لا تزال هناك فجوات كبيرة في إدارة الملفات الاقتصادية والمعيشية، فضمن محاولات إعادة الهيكلة، شهدت مديرية صحة درعا قرارات تقليص طالت عددًا كبيرًا من الموظفين، ما أثار احتجاجات دفعت السلطات إلى التراجع جزئيًا عن القرار، مبرّرة خطوتها بضرورة التخلُّص من شبكات المحسوبيات السابقة وتكييف المؤسسات مع متطلبات المرحلة الجديدة[50].

في ظل التحدّيات التي تواجهها محافظة درعا، يقترح بعض الخبراء تبنّي اللامركزية الإدارية كحل لتحسين الخدمات الأساسية، يتمثّل هذا المقترح في منح المجالس المحلية صلاحيات أوسع لإدارة قطاعات حيوية مثل المياه والكهرباء والزراعة والنقل، بهدف تسريع الاستجابة لاحتياجات السكان وتقليل الاعتماد على الحكومة المركزية. ومع ذلك، يواجه تطبيق هذا النموذج عقبات تتعلّق بضعف البنية الإدارية وندرة الكوادر المؤهّلة وغياب نظم الرقابة والمساءلة، مما يستدعي توفير دعم مؤسسي وتقني لضمان فاعلية أي توجُّه نحو اللامركزية[51].

الواقع المعيشي:

شهدت محافظة درعا تحسُّناً نسبياً في توافر السلع الأساسية، إلا أن الأوضاع المعيشية ما تزال صعبة بسبب ارتفاع الأسعار وضعف القدرة الشرائية، وكباقي المحافظات ارتفع سعر الخبز بعد إلغاء الدعم، حيث تُباع الربطة بـ 4000 ليرة مع تحديد الكميات، فيما تشهد أسعار المواد الغذائية انخفاضاً طفيفاً لكنها تبقى مرتفعة، مع تفاوت في أسعارها بين المحال نتيجة ضعف الرقابة، كما أدى إلغاء دعم المحروقات إلى ارتفاع أسعار البنزين والمازوت، ما زاد من تكاليف النقل والمواصلات، وتعاني الأسواق من الركود لضعف القدرة الشرائية لدى الناس، أمّا الكهرباء فهي متوفّرة لساعتين يومياً فقط، بينما تبقى الاتصالات مرتفعة السعر ورديئة الجودة، ورغم استمرار التحديات الاقتصادية يُعبّر بعض الأهالي عن أملهم في تحسُّن الأوضاع مستقبلاً، في ظل مطالبات برفع الرواتب التي لا تزال غير كافية لتغطية الاحتياجات الأساسية، مما يزيد من صعوبة المعيشة[52].

ويشهد القطاع الزراعي وتربية النحل في حوض اليرموك غربي درعا  تحدّيات متزايدة نتيجة الوجود “الإسرائيلي” في ثكنة الجزيرة العسكرية وأطراف قرية جملة، وهي مناطق تقع خارج حدود المنطقة العازلة، حيث مُنع المزارعون والنحّالون من الوصول إلى أراضيهم، ويعتمد سكان المنطقة على زراعة المحاصيل الباكورية، مثل البندورة، الكوسا، الخيار، الفاصولياء، والبطيخ، التي تُغطّي أكثر من 8000 دونم، ما يجعلها مصدر دخل رئيسياً، إلى جانب دورها في تأمين المنتجات الزراعية للأسواق المحلية، كما تواجه مناحل النحل مخاطر كبيرة بسبب الحاجة إلى متابعة دورية، ما يُهدّد الإنتاج واستمرارية النشاط الاقتصادي المرتبط بها، بينما يُطالب الأهالي بتمكينهم من استئناف أعمالهم الزراعية[53].

وتستمر الأزمة المائية في منطقة حوض اليرموك وريف درعا الغربي نتيجة الجفاف الذي أدّى إلى انخفاض حادّ في منسوب المياه في السدود الزراعية، وعلى رأسها سدّ سحم الجولان وسدّ عابدين، كما ساهم توقُّف ضخ المياه من بعض سدود محافظة القنيطرة مثل كودنة والرقاد وأم العظام -لأسباب قد تتعلق بعدم توافر الوقود- في تفاقم الشحّ المائي. وُيهدّد هذا الوضع بتلف واسع في المحاصيل الزراعية، التي تُشكّل مصدر دخل رئيسيّا للسكان[54].

إلى جانب الواقع الكهربائي الصعب الذي تعيشه سوريا عمومًا، تعرّضت درعا لسلسلة استهدافات طالت شبكات الكهرباء، مما زاد من أعباء الصيانة خاصة مع خروج خطوط أخرى عن الخدمة بسبب التخريب المتكرر، وقد تعرّض أحد خطوط التوتر الكهربائي في ريف درعا الشرقي لاعتداء أسفر عن إسقاط برج وسرقة كابلات، ما أدى إلى انقطاع التغذية عن محطة المسيفرة وانعكس سلبًا على مناطق واسعة في الريف الشرقي[55].

كما شهدت المحافظة ارتفاعًا في أسعار الإيجارات بنسبة تصل إلى 20%، مدفوعًا بزيادة الطلب على الشقق السكنية وعمليات ترميم المنازل، وذلك مع عودة جزء من الأهالي إلى المحافظة، وتراوحت إيجارات المنازل في مدينة درعا بين مليون ومليون ونصف ليرة سورية شهريًا، بينما وصلت في بعض مناطق الريف إلى 800 ألف ليرة، ويعود هذا الارتفاع إلى قلة المعروض من المنازل المعدّة للإيجار مع تزايد الطلب، فيما يشكو العديد من المستأجرين من الزيادات المتكررة في الإيجارات، وسط ظروف اقتصادية صعبة[56]. وقد سجلت المحافظة تزايدًا في حالات مخالفة البناء، حيث انتشرت أعمال البناء العشوائي والتعدّيات على الأراضي، وسط غياب إجراءات الحد من هذه الظاهرة[57].

المبادرات المجتمعية في المنطقة بعد التحرير:

ظهرت العديد من المبادرات التطوّعية التي أطلقها المغتربون بهدف تحسين الوضع المعيشي والاجتماعي في المنطقة في ظل ضعف الإمكانيات المادية في الداخل، تمحورت هذه المبادرات حول عدة مجالات رئيسية؛ أولها: تحسين البنية التحتية من خلال إعادة تأهيل المستشفيات وتزويدها بالمعدّات الطبية الضرورية في عدة مدن وبلدات[58]، إضافة إلى حملات من المجتمع الأهلي، وشملت الجهود إعادة تأهيل المدارس المتضررة جزئيًا في مناطق مثل الجيزة والمسيفرة وجاسم، حيث ركّزت الحملات الأهلية على صيانة الأبنية المتضررة، وإصلاح المرافق، وتأهيل المقاعد الدراسية لتوفير بيئة مناسبة للطلاب[59]، كذلك كان هناك مطالبات من أهالي قرية عين ذكر، بترميم المراكز الصحية المتوقفة عن العمل بسبب استخدامها كمقرات عسكرية سابقًا[60]، كما أطلقت رابطة أبناء الحارة حملة في العيد لدعم الأيتام  تهدف إلى إكساء 300 طفل يتيم[61].

في الجانب البيئي، أطلقت بلديات مثل بلدة تسيل حملات لتحسين المرافق العامة وتنظيف الشوارع وتجميل المداخل، بينما كانت هناك دعوات لزراعة الأشجار في مدينة درعا كجزء من مبادرة تهدف إلى إعادة الحياة الطبيعية للمناطق التي تضرّرت من الحرب، وقد تبنّت بعض الفرق التطوعية في ريف درعا الشمالي حملات توعية في المدارس حول مخاطر الألغام، بالإضافة إلى ترميم الأماكن العامة مثل المساجد لتحويلها إلى مراكز تعليمية[62].

تُسلّط هذه المبادرات الضوء على قدرة المجتمعات المحلية في درعا على مواجهة التحدّيات وتحقيق بعض التقدم في تحسين الأوضاع الاجتماعية والبيئية رغم الظروف الصعبة، مما يعكس إرادة قوية لإعادة بناء المنطقة من جديد.

خاتمة:

تُشير المعطيات في درعا إلى أن تحقيق الاستقرار فيها يرتبط بجملة من العوامل المتشابكة؛ يتصدرها الحدّ من الانتهاكات “الإسرائيلية” التي تُسهم بشكل مباشر في زعزعة أمن المنطقة وتُبقي مخاطر التصعيد قائمة خصوصاً مع نية “إسرائيل” البقاء بالمنطقة والتوسُّع في قرى وبلدات جديدة، ما يُهدّد باعتداءات “إسرائيلية” أوسع من التي حصلت خلال الفترة الماضية.

إلى جانب العامل “الإسرائيلي”، فإن عوامل أخرى مثل تكرار حالات الاغتيال أو السلاح المنفلت تُهدّد بتفشي مشهد الفوضى الأمنية، وهذا ما يبرز من أهمية جهود عملية نزع السلاح وتفكيك أي جماعة مسلحة خارج سلطة الدولة بما فيها بقايا “اللواء الثامن” المُنحل، ما يُمهّد لاستعادة الأمن في المنطقة ويُشكّل مدخلاً أساسياً لاستعادة الحد الأدنى من الاستقرار.

أما على المستوى الاقتصادي والخدمي، فإن درعا لا تنفصل عن الواقع السوري الأوسع، إذ تعاني من شح فرص العمل وتردّي الخدمات الأساسية واهتراء البنى التحتية، الأمر الذي يستدعي خطة عمل متدرّجة تُعيد الاعتبار للخدمات العامة بما يسهم في الانتقال إلى حالة الاستقرار الدائم.


[5] سوريا: اللواء الثامن فصيل محافظة درعا المسلح يعلن حل نفسه وانضواءه تحت لواء وزارة الدفاع، فرانس برس، 13/4/2025، شوهد في: 21/4/2025
[11] إسرائيل تهاجم 250 هدفا في سوريا وتوسع سيطرتها بريا   قناة الجزيرة، 9/12/2024 شوهد:  5/3/2025
[18] مظاهرة في درعا ضد التوغّل الإسرائيلي الشرق الأوسط 28/2/2025 شوهد 5/3/2025:
[35] اختطاف يافع في ريف درعا الغربي درعا24 , 19/2/2025  شوهد 18/4/2025
[50] تقرير رصد مركز حرمون (1-15 كانون الثاني/ يناير 2025) مركز حرمون للدراسات، 27/2/2025 شوهد: 7/3/2025
مقالات الكاتب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى