سوريا.. فشل وانهيار الدولة مقابل نجاح السوريين!
ما من اختلاف أن ما تعيشه سوريا هو أسوء كارثة تعيشها الأرض منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية، فمؤشرات ذلك واضحة جليَّة من انهيار الحالة الاقتصادية إلى تردي الحالة الاجتماعية وصولًا لانسداد الحالة السياسية في مناطق سيطرة “الدولة” نظام الأسد، فلا يكاد يمر يوم دون أن تسمع عن انتشار ظاهرة كانت غريبة في دابر الأيام القريبة عن المجتمع السوري، كالمخدرات وتعاطي الأطفال لها، ورمي اللقطاء على أبواب المساجد او عند دور الأيتام، وحالات الانتحار وغيرها الكثير، وعليه فمؤشرات فشل الدولة باتت واضحة، الأمر الذي يؤكد عليه مؤشر الدول الفاشلة/الهشة[1]؛ المؤشر الذي تعد فيه قدرة الدولة على القيام بوظائفها الأساسية العامل الأساس لنجاحها أو فشلها، معتمدًا على 12 مؤشر لقياس درجة حدة التهديدات السياسية والأمنية والتحديات الاقتصادية والاجتماعية والخارجية التي تواجهها الدول وهي: الضغوط السكانية، اللاجئون والنازحون، المظالم الجماعية، الهجرة الخارجية وهجرة الأدمغة، شرعية السلطة، الخدمات العامة، حقوق الإنسان وحكم القانون، الأجهزة الأمنية، تصدع النخب، التدخل الخارجي، التنمية الاقتصادية غير المتوازنة، الفقر والتدهور الاقتصادي. وبتحليل التحديث الأخير للمؤشر2022، يتبين لنا أن سوريا من بين أسوء ثلاث دول على وجه الأرض بعد اليمن والصومال. فمن أصل 179 دولة، يضع المؤشر سوريا في خانة الدول ذات الإنذار العالي “High Alert” ، لا يفصلها عن المؤشر الأخير إلا دولتين “Very High Alert”، حيث تصل علامة تدهور الدولة فيها إلى 108.4 من أصل 120. تدفعنا البيانات السابقة للنظر في ماهية مفهوم فشل الدولة وأبرز المظاهر التي أتى عليها المفكرون لتحديد فشلها من عدمه.
بيانات سوريا بحسب مؤشر الدول الهشة للعام 2022
ماهي الدولة الفاشلة؟
ظهر المصطلح للمرة الأولى عندما صنَّفت وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة مادلين أولبرايت عام 1997 الدول التي استقلَّت بعد انتهاء الحرب الباردة إلى الدول التي تعمل في إطار القانون الدولي، والدول المارقة[2] أو الخارجة عن القانون الدولي، والدول الانتقالية، والدول الفاشلة. وبعد أحداث 11 سبتمبر بدأ الاهتمام العالمي بخطر الدول الفاشلة بعد أن ظهر خطرها بتصدير “الإرهاب الدولي”، وتجارة المخدرات، والأسلحة واللاجئين والمهاجرين غير الشرعيين إلى الدول الغربية. يقول روبرت روتبرج أستاذ الحوكمة والعلاقات الخارجية في دراسته ( الطبيعة الجديدة لفشل الدولة القومية) أن الدول في طريقها للانهيار تمر بثلاث مراحل:
مرحلة الضعف، ثم الفشل، وأخيرًا الانهيار، ويقول المفكر “نعوم تشومسكي” عنها: هي التي لا تقدر أو لا ترغب في حماية مواطنيها من العنف أو الدمار، وتعد نفسها فوق القانون، وعليه تطلق يدها في ممارسة العنف والعدوان ضد مواطنيها والآخرين، تحتوي الدول الفاشلة على مؤسسات ضعيفة أو معيبة، البنى الأساسية فيها إما أنها متدهورة أو أنها دمرت بالفعل. كما أن الخدمات التعليمية والصحية في هذه الدول تدهورت إلى مستويات لم يعد بالإمكان إصلاحها، ولا تقدم الدول الفاشلة فرصا اقتصاديَّة متماثلة لمواطنيها مما يؤدي إلى تفاوت شديد في الدخول والثروات. ويزدهر الفساد ويصل إلى مستويات غير عادية ومدمرة، كما ينتشر الفساد الصغير على نطاق واسع يحصل فيه الموظفون على مقابل لكل خدمة يقدمونها للمواطنين.
متى تفشل الدولة:
يقول روتبرج “تفشل الدولة عندما يصبح المواطنون أقل ولاء لها، وعندما يُنظر إلى الحكام على أنهم يعملون لذواتهم ومحيطهم وليس من أجل الدولة؛ تتآكل شرعية الدولة وشرعيتهم، حيث تصبح حكرًا على جماعة أو طبقة دون غيرها ويصبح المواطنون أكثر ولاء للجماعات العرقية أو العشائر التي ينتمون إليها أو لغيرها من جماعات”.
تعادي الدولة الفاشلة جزءًا من أقاليمها وتفرض قمعًا شديدًا على أقاليم بعينها بدوافع عرقية أو اجتماعية، اذ تمارس الدولة الفاشلة ذاتها جريمة منظمة ضد مواطنيها، مع بنية تحتية مدمرة لا تقدم الخدمات العامة بشكل منتظم. وتفشل الدولة عند انتشار الفساد بصورة كبيرة، وعند عجز الدولة عن تقديم فرص اقتصادية للمواطنين مع مؤشرات ضعيفة للناتج المحلي ونصيب الفرد منه، وارتفاع صارخ للتضخم، وفقدان السيطرة على العمل المحلية والقطاع المالي.
ما الفرق بين فشل وانهيار الدولة:
حدد روتبرج سمات وخصائص الدولة المنهارة أنها شكل متطرف للدولة الفاشلة، وتتميز بغياب تام للسلطة فتصبح الدولة مجرد تعبير عن كيان جغرافي بدون شرعية داخلية أو خارجية، يسود فيها انعدام الأمن وتنتشر تجارة الأسلحة والمخدرات، وتظهر ميليشيات مسلَّحة تسيطر على مناطق داخل الدولة.، يترافق ذلك مع انهيار للسلطة السياسية والمؤسسة العسكرية والأمنية، وتكون الدولة غير قادرة على إدارة الصراع وفرض الأمن، وعاجزة عن تقديم الخدمات الاجتماعية وتوفير البنى التحتية الأساسية، وواهنة عن السيطرة على جزء كبير من إقليمها. وأضاف روتبرج أن الدول تمر بثلاث مراحل في طريقها الى الانهيار : الدولة الضعيفة، الدولة الفاشلة/الهشة، والدولة المنهارة. لكن الفرق بينهما التراتب الزمني، إذ يمكن في حال تنامي ضعف وتدهور الدولة أن تتحول بمرور الزمن إلى دولة فاشلة، وفي حالة ديمومة الفشل يمكن أن تتجه نحو الانهيار، والفرق بين الدولة الفاشلة والدولة المنهارة أن الأولى تعني وجود سلطة سياسيَّة لكنها تعاني من أزمات سياسية وأمنية واجتماعية واقتصادية، أما الثانية فتعني انهيار السلطة السياسية بالكامل.
نجاحات السوريين:
تظهر المؤشرات المُتتبَّعة عبر مؤشر الدول الهشة أن سوريا كانت تعاني من مشاكل في بنيتها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية قبل الثورة حيث كان ترتيبها على مستوى الدول في العالم 2005 -عام بداية إصدار المؤشر- عند 29 من أصل 76 دولة وبمضي السنوات إلى ما قبل الثورة وصلت إلى 48 من أصل 177 دولة.
العام | الترتيب الدولي لسوريا | العدد الكلي للدول |
2005 | 29 | 76 |
2006 | 33 | 146 |
2007 | 40 | 177 |
2008 | 35 | 177 |
2009 | 39 | 177 |
2010 | 48 | 177 |
2011 | 48 | 177 |
أوضاع سوريا حسب مؤشر الدول الفاشلة الأعوام 2005- 2011
بعد 11 عامًا على الحرب الشعواء التي يخوضها نظام الأسد على الشعب السوري يمكن الجزم أن البلاد تعيش حالة انسداد في المقاربات السياسية والاجتماعية والعسكرية والاقتصادية، حيث تظهر كل المؤشرات اقتراب البلاد من مرحلة الانهيار والتفكك، ولولا البُعد الإقليمي والدولي لكانت في مرحلة انهيار الدولة بشكل كلي. يترافق ذلك -ويا للمفارقة- مع نجاحات خارجية ملفتة لأبناء جغرافيا الفشل تلك، حيث يشق السوريون اليوم طريقًا غير طريق الموت الزعاف الذي شقه “جلاد الشام” لهم طوال سنوات حكمه؛ يشقونه بنجاحات باهرة في بلاد المهجر واللجوء تصل إلى مستوى النفاذ إلى صلب بنية اقتصادات دول كاملة، بل يتجاوز ذلك إلى مستوى التعليم الأكاديمي بأسفارٍ من نجاحات وحصد للمراكز الأولى في الجامعات، أضف إلى ذلك معدلات الترشح والحصول على جنسيات مختلفة من دول العالم القائمة على شروط معقدة وصعبة، كل ذلك يدفعنا للسؤال لماذا ينجح الناس خارج سوريا ويفشلون داخلها -مع الإشارة الدقيقة أنه لا يمكن أن يسود أي نظام استبداد وفساد وعنف بهذه الشمولية لسنوات دون أن يؤثر في المجتمع نفسه وفي قيمه السائدة، خصوصًا في تجذير “السلوك الفهلوي” وتدبير الحال حتى في معاملات الناس الصغيرة، وهو سلوك “منطقيًا” معاكس لسلوك الجد والجهد وإتيان البيوت من أبوابها، فلا يمكن لأي مجتمع أن يتخلَّص من هذه الآثار الثقافية والنفسية المعيقة بسهولة- يعود الجواب بالدرجة الأولى إلى طبيعة النظام السياسي الحاكم، يصف الكاتبان روبرت روتبرج وسيث كابلان في كتاب ( كيف تحوّلت سورية من دولة مارقة إلى دولة فاشلة)؛ يصفان المرحلة البعثية بأنها مرحلة سوبر إرهابية، كونها بلادًا راعية للإرهاب والعنف ومُثيرة للقلق، ويصف الكتاب النظام القضائي بأنه نظام فاسد وغير فعّال، وهو مرهون بالسلطة التنفيذية للحكومة، ويضيف كانت سوريا خلال سنوات حكم عائلة الأسد دولة هشّة وضعيفة بالمعنى السياسي والاجتماعي والمؤسساتي وكانت مؤشرات فشلها أكثر بكثير من مؤشرات قدرتها على النمو والتحول الديموقراطي، فقد تعمدت “عائلة الأسد” تحطيم الإرث المؤسساتي الضعيف الذي نشأ بعد الاستقلال وتحولت من دولة تأسست على الفكرة الجمهورية إلى دولة يمكن توريثها من الأب إلى الابن من دون أي مقاومة، ويؤكد أن حكم الاستبداد الطويل قاد سوريا إلى أن تكون دولة فاشلة عبر تجويف وانهيار مؤسساتها الرسمية وتحطيم نسيجها الاجتماعي وتفككه باتجاه عصبيات قبلية وطائفية وأثنية، وتعميق ذلك عبر تغيير البنى الاجتماعية وإقحام عناصرها في المناصب المهمة الأمنية والعسكرية التي بدأت باستنزاف ثروات البلد في وقت مبكر، ما قاد إلى خلل اجتماعي خطير، وهذا بالضبط ما يفسر -من وجهة نظر الكتاب- سبب اندلاع الثورة السورية ويبررها في محاولة تعديل هذا الخلل.
إذًا فالنظام يتغذى على فشل الدولة، الفساد هو جزء من بنيته الأُسِّيَّة، تحول من كيان يحاول إدارة مؤسسات الدولة إلى عصابة تدير وتشرف على منظومة الفساد داخلها، وعليه يمكن القول أن اليوم وبعد 11 عامًا من الثورة على نظام الأسد، تحرَّر الإنسان السوري وأزهَرَ خارج مربَعِه، وانهارت الدولة أو في طريقها للانهيار؛ الدولة التي لا يمكن أن تنجح وتستقر إلا بانهيارها مع “نظام الأسد” لارتباطهما العضوي الإدغامي ببعض.
المصادر:
- Fragile States Index 2022 – Annual Report
- الدكتور عارف بني حمد: مؤشر الدول الهشة أو الفاشلة لعام 2021 أوضاع الدول العربية
- الدولة الفاشلة (سوريا نموذجًا) عارف احميدي، حسين بني حمد، أمين عواد، مهنا المشاقبة
- الدول الفاشلة: تعريفها وتصنيفات وتهديداتها للاستقرار والأمن الدوليين، أمل أحمد هاني زكي إبراهيم
- سوريا درب الآلام نحو الحرية- محاولة في التاريخ الراهن، عزمي بشارة