العوامل المؤثرة في رأس المال الاجتماعي: نظرة في السياق السوري
بعد أن تحدّثنا في المقال السابق عن مفهوم رأس المال الاجتماعي وإشكالياته النظرية والتطبيقية وأهمية قياسه في الحالة السورية، فإن مزيداً من الأسئلة الملحّة تطرح نفسها في هذا السياق، إذ إنّ الحديث عن أي مفهوم مجتمعي لا ينفصل عن السؤال عن العوامل المؤثرة فيه سلباً أو إيجاباً.
تشير دراسات البنك الدولي ومنظمة التعاون والتنمية الاقتصادية (OECD) إلى مجموعة من العوامل التي يكون لها في الغالب تأثيرات إيجابية لبناء رأس المال الاجتماعي، والتي تُلخّص عادةً بأربعة: أولها، الأسرة: إذ تعكس منظومة العلاقات التي تنتجها مردوداً إيجابياً ليس لأفرادها فحسب، بل وتنعكس إيجابية علاقاتها على المجتمع، وثانيها يظهر دور الشبكات الاجتماعية التقليدية التي تنتج عن التفاعلات بين الأقارب والأصدقاء، ويكون لها أهمية في التعاون في الأعمال الجماعية لتقديم خدمات عامة على سبيل المثال إنشاء الأعمال التجارية أو تفعيل التعاون في مواجهة المصاعب والتحديات كتقديم المساندة في حالة المرض أو التبرعات في حالة الأزمة المالية ..الخ.
إلى جانب هذين العاملين يبرز عاملان آخران على المستوى الاجتماعي، وهما: المجتمع المدني والدين، وهما من أكثر العوامل التي تحظى باهتمام المفكّرين، وفي مقدمتهم المفكر الأمريكي الشهير بوتنام الذي أولى المشاركة المدنية دوراً محورياً في قوة رأس المال الاجتماعي وضعفه، كما أبرز بقوة دور العامل الديني، معتبراً أن الانتماءات الدينية تمثّل نصف رأس المال الاجتماعي للولايات المتحدة.
بشكل عام يُمثّل النشاط المدني عبر منظمات المجتمع المدني بمختلف أشكالها النقابية والشبابية والنسائية والخيرية والدينية والحقوقية… إلخ عاملاً مهماً في تنمية رأس المال الاجتماعي حال ضمان حريتها واستقلالها، في حين يبرز دور العامل الديني عبر تأثيره على طريقة تنشئة الأفراد ومساهمته في وعيهم تجاه أنفسهم والآخرين والمجتمع، كما يمتلك قدرة كبيرة على حشد الموارد نحو أهداف محددة.
تعدُّ جميع العوامل السابقة عوامل إيجابية في حالتها المعيارية المثالية، وقد تتحول إلى عوامل سلبية استثناء؛ بمعنى آخر فإن العامل الإيجابي، قد يتحول لعوامل هدم لرأس المال الاجتماعي الوطني إذا ما أصبح رابطاً لشبكة منغلقة على نفسها معادية للآخرين، فعلى سبيل المثال كل الحروب الطائفية والعرقية تكون بين شبكات اجتماعية تقليدية متضخمة ومتعصّبة بل تكون مضطهدة لأفراد الشبكة بشكل كبير في حال مخالفة القواعد العامة؛ مثلا في مذبحة رواندا تم قتل “الهوتو” المتعاطفين مع “التوتسي” أيضاً.
وفي مقابل هذه العوامل الإيجابية، توجد عدة عوامل مُضعِفة لرأس المال الاجتماعي، أبرزها: الظروف الاجتماعية والاقتصادية السيئة التي تدفع الأفراد للانكفاء على أنفسهم والانشغال بتلبية احتياجاتهم الأساسية من دون الالتفات لواجباتهم الاجتماعية القريبة، فضلاً عن الاهتمام بالشأن العام، الأمر الذي يساهم في انتشار مجموعة من القيم السلبية؛ كالنزعة الفردية والسلبية واللامبالاة والانعزالية كقيم مناهضة لرأس المال الاجتماعي.
يرتبط ثاني العوامل بغياب الممارسة الديمقراطية في المؤسسات، وهو الأمر الذي يتبعه بالضرورة غياب مضامين الإدارة الرشيدة كالمشاركة والشفافية ومكافحة الفساد، مما يساهم في تراجع الأداء وضعف الإنجازات، وهذا بدوره يؤدي إلى غياب الثقة في هذه المؤسسات بمختلف أنواعها، الثقة التي تعد أحد أهم معايير رأس المال الاجتماعي.
وأخيراً، يبرز أثر النزاعات الداخلية، كأحد العوامل التي تُضعف التفاعل والثقة والمشاركة لدى فئات الشعب بصورة عامة نتيجة تزايد خطاب الكراهية بين الفئات المتناحرة، وحالة التخوين المتبادلة بينها، الأمر الذي يعني عملياً إمكانية انقطاع الروابط داخل أقوى الشبكات الاجتماعية؛ الأسرة.
في السياق السوري، نتيجة تعقد المشهد الاجتماعي، لا نبالغ إن قلنا: إن كل عامل من العوامل المؤثرة في رأس المال الاجتماعي له آثار إيجابية وأخرى سلبية في الوقت نفسه، وهذا ليس من باب التناقض، وإنما نتيجة نسبية العامل واختلاف تأثيره زمنياً ومكانياً، فضلاً عن سيولة المشهد السوري الاجتماعي.
لو بدأنا بعامل الأسرة الذي كان حاضراً كعامل إيجابي في المجتمع السوري بما ينتجه من روابط قوية، ساهمت في تدعيم شبكة أمان عائلية، ساعدت بشكل واضح في صمود الأفراد والأسر اقتصادياً واجتماعياً، وتجاوز الظروف القاسية التي يمرون بها ولو نسبياً، كما هو في حالة تأمين السكن عبر السكن الجماعي العائلي، أو في إسناد أعضاء الأسرة لبعضهم البعض مالياً. بالمقابل كان لهذا العامل تأثيره السلبي في حالات استثنائية على مستوى المشاركة والاهتمام بالشأن العام نتيجة تركيز بعض الأسر على نشر أفكار السلبية والابتعاد عن المشاركة في الشأن العام بين أفرادها، مما يُساهم في إضعاف رأس المال الاجتماعي.
على صعيد حضور الشبكات الاجتماعية التقليدية كالعشيرة أو المناطقية أو الرابط الديني فقد كانت هذه الروابط حاضرة لدى مكونات الشعب السوري باستمرار ولا أدلّ من ذلك من مستوى الحضور الشعبي في الشعائر الدينية المختلفة أو تمسك السوريين بانتماءاتهم العشائرية خاصة في الأرياف، وهي العوامل التي أنتجت في سياق صحيح تفاعلات إيجابية وساهمت في التضامن بين الأفراد بالمعاني الإيجابية كالمواساة وفضّ النزاعات الاجتماعية عبر الصلح والتعاون بأعمال البر والتقوى، وهو ما استمرت إيجابياته بعد الثورة السورية خاصة في دول اللجوء، حيث استطاع كثير من اللاجئين في لبنان على سبيل المثال إنعاش شبكاتهم الاجتماعية وإنماءها مرة أخرى، فغالباً ما اختار اللاجئون شبكاتهم الاجتماعية السابقة لاتخاذ قرارهم المدروس حول مكان إقامتهم المختار، ففي بلدة برج حمود في بيروت مثلا نشأ مجتمع محلي وثيق الترابط من اللاجئين السوريين الأكراد .
في ذات الوقت لم يكن لكلا العاملين قبل الثورة السورية أثرٌ في بناء رأس مال عابر للدائرة الأضيق أي دور في إنتاج رأس مال اجتماعي وطني جامع، وذلك بفعل عوامل عديدة ارتبط قسم كبير منها بأسلوب إدارة نظام الأسد للتنوع السوري، وتحريضه للشبكات بعضها على بعض الآخر. وهو الأمر الذي ظهر بعد الثورة السورية بوضوح، إذ ظهر حجم الخلل في العلاقات والصلات الاجتماعية ومستوى الفجوات والتعقيد بين الشبكات المختلفة، ومع وجود سياسة ممنهجة تزكي التعصب والانكفاء، تجسّدت بشكل رئيس بارتفاع وتيرة الحشد الطائفي والعرقي والمناطقي، خصوصاً مع نشوء حوامل منغلقة ومبنية على هذه الشبكات كما هو حال بعض التنسيقيات التي ظهرت في بداية الثورة وصولاً إلى عينة من الفصائل العسكرية والهيئات السياسية. صحيح أن نشوء هذه الحوامل كان طبيعياً في بدايته، إلا أن الإشكالية حصلت لاحقاً في انغلاق هذه الحوامل على نفسها وعدم قدرتها على التحول نحو أسس لحوامل وطنية خصوصاً من الناحية الهيكلية.
على النقيض من ذلك كله، فقد كان العامل المدني بمعناه الواسع بما يتضمنه من قيم المشاركة والتطوع قبل الثورة السورية أحد أهم العوامل المفقودة، حيث جفّف نظام الأسد أي شكل من أشكال العمل المدني باستثناء هياكل هشة تابعة للسلطة كالمنظمات الشعبية الرديفة والجمعيات الخيرية. أما بعد الثورة فقد تأسست الكثير من المنظمات غير الحكومية في مختلف المجالات، سواء الطبية أو الإغاثية أو التعليمية أو الحقوقية، والتي أصبحت في ظل غياب مؤسسات الدولة جهات معنية بتقديم الخدمات الأساسية للسكان، وباتت في غالب الأحيان عاملاً مهماً في بناء رأس المال عبر تفعيل المشاركة والتطوع في المجال العام، وسمحت أحياناً بتأسيس شبكات عابرة للانتماءات الضيقة.
لقد كانت مختلف عوامل بناء رأس المال الاجتماعي وهدمه حاضرة في السياق السوري. وعلى الرغم من تعقد المشهد السوري وسياقه الموضوعي الضاغط على رأس المال الاجتماعي حالياً، إلا أنه في الغالب كانت ممارسات نظام الأسد قبل الثورة وبعدها من أهم العوامل التي أثّرت سلباً عليه، في حين ارتبطت العوامل الإيجابية غالباً بالأسرة والمجتمع السوريين، وهي العوامل المراهن عليها في الصمود والتكيف السوري داخل سوريا وخارجها، وفي بناء رأس مال اجتماعي وطني يوماً ما في سوريا.
باحث مساعد في وحدة التوافق والهوية المشتركة يحمل إجازة في الحقوق وحاصل على شهادة الماجستير في القانون العام، ناشط في المجتمع المدني والمجال الحقوقي وقدم عدداً من البرامج التدريبية