في مواجهة التطبيع مع نظام الأسد
مع بلوغ مسلسل التطبيع العربي المعلن مع نظام الأسد مراحل متقدمة، واتخاذه أشكالا متعددة (أمنية واقتصادية وسياسية)، يبدو أن مساعي إعادة التدوير لن تتوقف عند دعوات إعادة دمشق إلى البيت العربي، وفتح بعض الدول لسفاراتها، وإشراك سوريا في اتفاق تزويد لبنان بالطاقة، ومؤخرا فتح الحدود بين الأردن وسوريا، وتتويجها باتصال هاتفي مشترك جمع ملك الأردن ببشار الأسد.
ولعل اندفاع عدد من الدول وخاصة العربية إلى تطبيع علاقاتها يستند إلى فرضية مفادها أن الحرب قد انتهت بانتصار نظام الأسد، وأن واشنطن تخلت عن فكرة اسقاط الأسد، وبات الروس هم اللاعب الأساسي في الملف، وأنه من الضروري إعادة العلاقات مع هذا النظام لعل ذلك يساهم في لجم جماح المد الإيراني من جهة، وتأمين مصالح هذه الدول الأمنية والاقتصادية من جهة أخرى.
بعيدا عن التبدلات التي طرأت على الملف السوري وتفاصيلها، فإن التهافت للتطبيع قد يساهم في تثبيت حكم نظام الأسد أو على الأقل يطوي صفحة اسقاطه، وينطلي ذلك على جملة من المخاطر الداخلية والخارجية المحتملة التي تهدد السوريين وقوى الثورة والمعارضة، كتكريس وجود نظام قاتل ومجرم في الحكم والاعتراف به والتطبيع معه، وبالتالي استمرار دوامة العنف والأعمال الانتقامية، وإقفال قضية المعتقلين وشرعنة التغيير الديمغرافي، وإغلاق ملف النازحين والمهجرين، إضافة لتهميش قوى الثورة والمعارضة خارجياً، وتجاوز القرارات الدولية أو إغفالها والتي تقضي على الأمل البسيط المتبق للسوريين في استرداد جزء من حقوقهم وعودتهم إلى ديارهم.
بعيداً عن مخاطر التطبيع مع نظام قتل وهجر الآلاف من شعبه، وعن مبررات الأنظمة التي هرولت لإعادة التطبيع معه، يبقى السؤال الأساسي الماثل أمام السوريين: كيف يمكن مواجهة هذه الخطوات؟ وهل ثمة تجارب مفيدة يمكن الاستفادة منها في هذا المجال؟
تعطينا الحالة الفلسطينية بعض الدروس المستفادة في مواجهة التطبيع مع “إسرائيل”. على الرغم من وجود أوجه شبه متعددة بين الحالتين السورية والفلسطينية؛ فكلا الشعبين تمردا على الظلم، وتعرضا لكافة أشكال القهر من تهجير واعتقال وسلب للأموال والأملاك، إلا أنه ثمة اختلافات واضحة بين الحالتين، حيث نجد أن القضية الفلسطينية كانت وما تزال محل إجماع عربي وإسلامي على مركزيتها، على عكس القضية السورية التي لم تحظ بمثل هذا الإجماع، إذا ما تزال بعض الشرائح العربية والإسلامية تنظر إلى ما حدث على أنه مجرد نزاع على السلطة أو حرب داخلية بين مكونات البلد الواحد، وليست ثورة تحرر من الاستبداد والظلم من أحد أسوأ الأنظمة الدكتاتورية التي عرفتها البشرية، إلى جانب الاختلاف في الاصطفافات الدولية مع كلا الشعبين؛ فالتطبيع مع إسرائيل كان بمباركة أمريكية، أما في الحالة السورية فإن الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي من أبرز الرافضين لإعادة تعويم الأسد والتطبيع معه على الأقل وفق المعطيات الحالية.
مع ذلك يمكن الاستفادة من الأدوات التي استخدمها الفلسطينيون في هذا الصدد، كإطلاق ميثاق إعلامي أهم بنوده عدم الظهور على المنصات الإعلامية الإسرائيلية بشتى مسمياتها وتحت أي مبرر، والسعي لتفنيد خطاب التطبيع وتفكيك حججه، وإجراء ملتقيات إعلامية يستضاف فيها شخصيات مؤثرة في العالم وخاصة ممن يمتلك جمهورا كبيرا على وسائل التواصل الاجتماعي لتسليط الضوء على معاناة الشعب الفلسطيني جراء انتهاكات الاحتلال الإسرائيلي وجرائمه.
كل ذلك، إلى جانب العمل على تجاوز الخلافات والانقسامات الداخلية، والاجتماع على هدف تكتيكي واحد عنوانه “رفض التطبيع” وحشد الرأي العام ضده، وإظهار المخاطر السياسية والثقافية له خاصة أنه يتناقض مع تاريخ المنطقة وثقافتها، بالإضافة إلى تفعيل الدبلوماسية الفلسطينية التي ضمنت عودة القضية الفلسطينية إلى سلم أولويات القضايا الدولية، وهو ما مهد الطريق أمام الفلسطينيون لكسب الرأي العام في الجولة الأخيرة مع إسرائيل على خلفية أحداث المسجد الأقصى وحي “الشيخ جراح” بالقدس.
بالعودة إلى القضية السورية، فإنه ثمة أدوات يمكن استخدامها لمواجهة التطبيع مع نظام الإجرام. على المستوى الخارجي من المهم تفعيل دور الجاليات عبر تنظيم حملات الحشد والمناصرة ضمن سياقات واضحة ومحددة، تهدف إلى لفت الانتباه إلى القضية السورية، والإضاءة على جرائم نظام الأسد وانتهاكاته ومخاطر التطبيع معه، شريطة ألا تكون هذه الحملات آنية وقائمة على ردة الفعل، بل مستمرة وذات خطاب ورؤية واضحة لاستثمارها في تحريك الجمهور العام وليس اطلاعهم على الأحداث فقط، إلى جانب السعي لتحويل هذه الأنشطة من نشاط فردي أو جماعي إلى نشاط مؤسساتي.
كما من المهم توجه قوى الثورة والمعارضة لفتح قنوات تواصل مع جهات حقوقية والمنظمات الدولية غير الحكومية والشخصيات التي تمتلك جمهورا واسعا، للخروج بعرائض وبيانات مشتركة تدين وترفض التقارب مع نظام الأسد.
أيضاً يفترض تحرك مراكز الضغط في الدول الداعمة للثورة السورية كالاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة والاستفادة إلى أقصى حد من العلاقات الشخصية مع أصحاب القرار، على سبيل المثال: يمكن توظيف العلاقات الجيدة التي تمتلكها بعض المؤسسات السورية في الولايات المتحدة مع المشرعين الديمقراطيين لدفع الإدارة الأمريكية الحالية للثبات على موقفها الرافض للتطبيع والضغط على حلفائها لمنع ذلك تحت أي سقف.
أما داخليا فيترتب على السوريين وقوى الثورة والمعارضة تنظيم مظاهرات ووقفات احتجاجية رافضة للتطبيع، مع إقامة منتديات وملتقيات وحملات جمع تواقيع لتكون ورقة قوة بيد مراكز الضغط تستثمرها لدى الدول، كما أنه من الضروري العمل على ترميم الوضع الداخلي والقفز على الخلافات في القضايا الاستراتيجية والتركيز على قضية التطبيع التي تشترك في رفضها قوى الثورة والمعارضة بشقيها العسكري والسياسي والمدني.
وقبل كل ذلك يفترض تعميق “رفض التطبيع” داخل الأسرة والمجتمع السوريين عبر تكريس فكرة رفض نظام الأسد والقبول به، عبر المناهج التعليمية، والنشاطات والملتقيات الثقافية، والتجمعات الدينية، وأيضا وسائل التواصل الاجتماعي خصوصا أن الفضاء الافتراضي يساعد على ذلك.
إذا كانت النازية بما تحمله من تمييز وجرائم بحق الإنسانية فكرة مرفوضة عالمياً، ويمقتها الرأي العام. فإن نظام الأسد بحمولته لأشنع الجرائم التي يمكن أن تمارس في القرن الحادي والعشرين، وعلى رأسها استخدام السلاح الكيماوي ضد المدنيين الآمنين الذين هم شعبه كما يفترض، قد تفوق على النازية في كمية الحقد والإجرام. وبالتالي يفترض أن من يدعو للتطبيع معه، كمن يدعو للتطبيع مع النازية.
صحفي سوري، ومنتج أخبار في قناة حلب اليوم الفضائية، وباحث مساعد في مركز الحوار السوري