أقلام المنتدى

دمشق بعد الأسد: بين الأمل والمخاوف من التغيُّرات الثقافية والدينية

مع سقوط نظام الأسد وما تبعه من تحوّلات سياسية واجتماعية، عاشت دمشق لحظات متباينة من الترقب والأمل، ارتفعت هتافات التكبير في شوارع المدينة، في تعبير عن فرحة عارمة بمستقبل بدا واعدًا، حيث انطلقت مشاعر التحرر من القيود السياسية التي خيّمت على المدينة لعقود طويلة، في تلك اللحظات شعر الكثيرون بأن المدينة تستعيد روحها الحقيقية، وبدأت تتشكل تطلُّعات جديدة نحو الحرية والكرامة في الأفق.

كانت الأحاديث في البيوت والمجالس تدور حول فرص البناء والانطلاق من جديد، ورسمت الأحلام الشعبية صورة لدمشق أكثر إشراقًا وازدهارًا. ومع ذلك، لم يكن التفاؤل موجودًا في جميع الأوساط، إذ برزت بعض المخاوف والقلق من التغيُّرات التي قد تحملها هذه المرحلة الانتقالية، وهذا ما جعل مشهد دمشق يختلط بين الأمل والشكوك، لتبدو المدينة عالقة بين ماضيها المرير وطموحاتها المستقبلية.

سأحاول في هذه السطور أن أنقل ما وصلني من مخاوف، استنادًا إلى تواصلاتي مع عدد من أبناء المدينة في محاولة لمناقشة آرائهم وتصوراتهم حول مستقبل المدينة.

مخاوف من التغيير في قلب المدينة العتيقة

تعيش دمشق اليوم مرحلة فاصلة مليئة بالتحديات الاجتماعية والثقافية، حيث لا تزال بعض فئات المجتمع الدمشقي تشعر بالقلق من التغيرات التي قد تطرأ على هويتها الثقافية والدينية التي عاشوا تحت ظلها لعقود والقبول بمرحلة جديدة في ظل التحوّلات السياسية والاجتماعية التي تمر بها المدينة، وبينما يطمح العديد إلى استعادة حرية المدينة المسلوبة وتنوعها الثري خلال حقبة آل الأسد، يخشى البعض من آثار هذا التغيير سواء كان سياسيًا أو دينيًا على استقرار المدينة.

تعد مسألة التعايش بين الأطياف الثقافية والدينية المتنوعة في دمشق واحدة من القضايا الرئيسية التي تشغل اهتمامات بعض سكان المدينة في ظل التحوّلات السياسية والاجتماعية الحالية. فبعد عقود من حكم الأسد الذي روّج لفكرة الحفاظ على وحدة الشعب السوري وحماية الأقليات، بدأ بعض الدمشقيين اليوم يشعرون بالقلق حيال مستقبل هذا التعايش في ظل التغيرات الجارية.

كما تتداول بعض النساء والشابات خصوصاً العاملات منهن في مجالسهن الخاصة مخاوف من أن التغيرات الاجتماعية قد تؤدي إلى تقليص حقوقهن وحرياتهن الشخصية، خاصة في ما يتعلق بمشاركتهن في الحياة العامة أو فرض شكل اللباس العام، بالإضافة إلى فرض قيود اجتماعية جديدة كمنع الاختلاط، وبين تساؤلات حول دور المرأة في الدولة القادمة بعد هذه المرحلة الانتقالية.

بينما تشير بعض الأصوات في دمشق إلى ظهور مظاهر دينية جديدة تتبنّى توجهات “يرونها متشددة”، ومخاوف من أن يتم فرض رؤى ومعايير تختلف عن تلك التي ألفتها المدينة عبر تاريخها المعروف لديهم إبان حكم آل الأسد، ويعبر هؤلاء عن خشيتهم من أن تؤدي هذه التغييرات إلى فرض قيم قد تتناقض مع النسيج الاجتماعي الذي كان يُشكّل هوية دمشق كما يرونه وكما عرفوه.

دمشق بين إرث الأسد ومخاوف التشدُّد

بينما كان نظام الأسد يسمح بممارسة العبادات مثل الصلاة وحضور المجالس الدينية في المساجد، إلا أنه ضمن سياساته العلمانية فرض رقابة شديدة على هذه الأنشطة، فكانت العبادات تُمارس ضمن حدود ضيّقة، وفق تصوّرات رسمتها الدولة، بحيث لا تتجاوز هذه الممارسات حدود المسجد، ولم يكن مسموحًا للناس أن ينقلوا ممارساتهم الدينية إلى الحياة اليومية العامة أو أن يستخدموا الدين كأساس للتأثير في المجتمع، هذا النهج خلق نموذجًا محدودًا ومختزلاً للتديُّن، يقتصر على العبادة الفردية بعيدًا عن المجال العام، ما أدى إلى فصل كبير بين الدين والحياة اليومية تحت رقابة صارمة من الدولة.

هذا الفصل الذي رسّخه النظام البائد بين الدين والحياة اليومية، في إطار التربية العلمانية التي أسّسها حزب البعث البائد لعقود، جعل التديُّن في الوعي الجمعي الدمشقي مرتبطًا بالحدود التي وضعتها الدولة، ومن هنا نشأت حساسية مجتمعية تُجاه أي مظاهر دينية تتجاوز هذا الإطار، وبالتالي يُثير سمت الحكومة الانتقالية الجديدة التي تُمثّل نموذجًا دينيًا أكثر علانية واندماجًا في الحياة العامة، توجسًا كبيرًا لدى بعض أهل دمشق من الخلفيات العلمانية، فهذه الجماعة ليست مجرد مشروع سياسي، بل تحمل أيضًا مظاهر تديُّن تختلف مع ما اعتاد عليه أولئك الدمشقيون تحت حكم النظام، فظهور هذه المظاهر الدينية أكثر علانية، وتداخلها في المجال العام، يهدد النموذج المحدود الذي رسّخه النظام وخاصة عند الفئات العلمانية والأقليات، هذا التوجُّس ينبع من الخوف من الانتقال من قبضة النظام العلماني إلى سيطرة دينية صارمة قد تُفرض بالقوة، وهو ما يثير القلق لدى بعض الفئات.

لطالما كانت السياسات الإعلامية والتعليمية التي تبنّاها نظام الأسد البائد أداة فعّالة في تشكيل صورة سلبية عن المظاهر الدينية السنية في سوريا، فعلى مدار سنوات طويلة، استخدم الإعلام الرسمي أدواته لتوجيه الرأي العام، وربط المظاهر الدينية مثل اللحية بالتطرف والإرهاب، مما ساهم في ترسيخ هذه الصور في أذهان الجمهور السوري، وكان ذلك واضحًا في التقارير الإعلامية التي كانت تُركّز على تصرفات التنظيمات المتطرفة مثل “داعش”، حيث كانت المشاهد المروعة كقطع الرؤوس و”إقامة الحدود” على المخالفين تترك أثرًا عميقًا في الذاكرة الجمعية للسوريين، كما أن نظام الأسد روّج لسنوات أنه يحمي الأقليات من “الجماعات التكفيرية”، وينشر الكثير من الفيديوهات المفبركة رديئة المونتاج حول تهديدات بالإبادة لبعض المكونات السورية، مما ساعد في تعميق شعور بالخوف والقلق لدى بعض السوريين من أي تغييرات قد تؤثر على الوحدة الاجتماعية والعيش المشترك بين الطوائف المختلفة.

إضافة إلى ذلك، لعبت المسلسلات السورية دورًا كبيرًا على مدار سنوات الثورة في تعزيز هذا الخطاب الإعلامي، فبدلاً من تصوير الجماعات التي حملت السلاح في مواجهة ظلم النظام على أنها فصائل محاربة للديكتاتورية، تم تشويه هذه الجماعات، بما في ذلك الجيش الحر، وتم التركيز على أسوأ الممارسات كالقتل والسرقة والترويج لفكرة جهاد النكاح التي تم اختراعها في أروقة بعض القنوات الإعلامية اللبنانية المحسوبة على مليشيات حزب الله وإيران، هذه الأعمال الدرامية أسهمت في خلق شعور عام من النفور والعداء تجاه هذه الفصائل.

وبالرغم من أن متابعة بعض الدمشقيين للأوضاع في الشمال السوري لم تكن دقيقة، والمعلومات التي تصلهم منقوصة ومجتزأة، إلّا أنهم يرون أن التجربة السابقة لهيئة تحرير الشام هناك وما عرفوا عنها قد زادت من مخاوفهم، فقد تم تصوير الجماعة وفقًا لما يُتداول عنها، بأنها غارقة في الصراع الداخلي وتسعى لفرض أيديولوجياتها على الواقع، فضلاً عن محاولاتها تقليص دور المرأة ومنعها من المشاركة الفاعلة في المجتمع، هذا ما عزّز شعورهم بعدم اليقين تجاه قدرة الفصائل المسلحة على إدارة التنوع الذي يُميّز دمشق.

التغيير في دمشق: حاجة للحكمة والصبر في مواجهة مخلّفات الماضي

 إذا كان من المتوقع أن يتبنّى المجتمع الدمشقي فكرًا يتماشى مع التغيرات الحالية، فإنه من الضروري أن ندرك أن هذا المجتمع قد مرّ بتجربة طويلة من التأثيرات الثقافية والإعلامية التي زرعت أفكارًا قد تكون بعيدة عن فطرته السليمة، فقد قام نظام الأسد بترويج خطاب علماني ونسوي عبر وسائل الإعلام والتعليم لعقود، وجعل الفكر الديني الملتزم بمبادئ الشريعة الإسلامية مدعاة للملاحقة والاعتقال، وبالتالي تأثّر معظم أفراد المجتمع الدمشقي، حتى الشريحة المحافظة بهذا الترويج، لدرجة أن خطاب العودة إلى الشريعة الإسلامية لا يُفهم على أنه دعوة للإصلاح، بل يُنظر إليه كتهديد لقيم الحرية الشخصية والكرامة التي يعتقد الكثيرون أن العلمانية قد حقّقتها لهم.

وفي هذا السياق، فإن الاستجابة لهذه التغيُّرات لا تكمن في فرض خطاب يتناقض مع معتقداتنا الإسلامية، بل في التحلي بالحكمة والصبر، وتقديم نماذج وقدوات وسلوكيات تعكس احترامنا لخصوصية المجتمع، مع الالتزام بالخطاب الذي يتماشى مع الفطرة السليمة، كما أن علينا أن نتذكر أنه كما تمكنت العلمانية والنسوية من التأثير في المجتمع من خلال الصبر والتدرج والعمل المدني المنظم، فإنه يمكن للفكر الإسلامي أن يحقق تأثيرًا إيجابيًا، بشرط أن يكون الخطاب هادئًا، حكيمًا، ويتسم بالحوار البنّاء.

مقالات الكاتب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى