أقلام المنتدى

اللقاء الأول مع سوريا

وُلدتُ في الغربة لعائلة مهجّرة منذ الثمانينات، لم أستطع زيارة سوريا أبدًا، حتى قبل انطلاق الثورة، كانت مجرد مكان خيالي بعيد، بعيدٍ في المكان وفي الزمان، لا أعرف عنها سوى الحكايا التي يحكيها لي والداي وأجدادي عن حياتهم فيها، لذا لم تنطبع في ذاكرتي كطفل عنها سوى تلك الصور القديمة عن مكان توقف فيه الزمان، وانتشر فيه الرعب والخوف والقهر.

مرت السنوات، بدأت الثورة، كنت صبيًا متحمّسًا حينها وأتابع كل تفاصيل هذه الثورة منذ اليوم الأول، كنت أشرح لأصدقائي في المدرسة تفاصيل ما يحدث، رغم أنهم من دول أخرى، ورغم عدم اهتمامهم بالموضوع مثلي، كانت الثورة أول رابط يشدّني إلى بلادي من جديد، لاحت حينها بارقة أمل بالعودة إلى هذا البلد الذي قيل لي إنني أنتمي إليه.

كانت سنوات الثورة ثقيلة، خصوصًا مع اشتداد المجازر والدمار والتهجير، مرّت أوقات شعرت فيها بالعجز وقلة الحيلة، إذ لم يكن بيد فتى في سنوات المراهقة أن يقدم أي شيء لتخفيف هذه المآسي، ومرت أوقات فقدت فيها الأمل، صار الظن الراجح عندي هو أنني سأبقى في حال الغربة طيلة حياتي، وربما إن كتب الله لتلك العصابة بالزوال سيعود أبنائي إلى تلك الأرض، التي ربما لن يشعروا نحوها بأي انتماء بعد أن قُطِعَت جذورهم منها منذ عقود.

حتى قبل سقوط نظام الأسد بأسابيع، كان الحديث عن العودة ضربًا من الخيال، كانت جميع الظروف والمعطيات تتجه نحو الأسوأ، كل الدول تتجه للتطبيع معه، كل الدول تريد الخلاص من هذا الملف الذي أوجع رؤوسها، وكل الدول لم تسأل عن مصير الشعب المكلوم سابقًا، ولن تسأل في المستقبل، كنت أنا وكلّ من حولي من رفاقي السوريين نُفكّر دائمًا في المستقبل المجهول الذي ينتظرنا، وفي أي خيارات الغربة هي الأنسب لنا.

ذات يوم استيقظت على خبر انطلاق عملية عسكرية جديدة، خفت في البداية من أن تكون ضربة يائس ستؤدي إلى كوارث إنسانية جديدة، لكن كان التقدم مستمراً كل يوم، ومع كل مدينة تتحرر كان الأمل يكبر، ومشاعر عدم التصديق أيضاً. لم أستطع النوم أو العمل أو الدراسة أو فعل أي شيء في تلك الأيام، كنا متسمّرين أمام الشاشات وأمام الهواتف، عاد الأمل من جديد ومن حيث لا نحتسب، وفُرجَت كل تلك الكرب في لحظة عين بعد أن ضاقت من كل جانب، وفُتِح باب العودة على مصراعيه.

منذ أن بدأت التفكير جديًا في العودة إلى سوريا دخلت في حالة أشبه بالحلم، الاستعداد للسفر، التواصل مع الأقارب الذين لم ألتقهم بحياتي لترتيب الزيارة، حجز التذاكر، تجهيز جوازات السفر، الوصول للمعبر، رؤية علم الثورة مرفوعًا في كل مكان، المرور بكل المدن والقرى التي حفظنا أسماءها ومواقعها على الخريطة أيام الثورة، تخيُّل أرواح الشهداء تطوف في المكان، كل هذه التفاصيل كانت حلمًا لا يمكن تصديقه.

رغم المشاعر الغامرة التي شعرت بها أثناء دخولي البلاد، بدا واضحًا أن كل شيء فيها، من البشر إلى الشجر إلى الحجر، كان مرهقاً، بدا لي أن كل شيء كانت تكسوه طبقة من الرماد، المباني كانت قديمة وألوانها شاحبة، الناس وجوههم متعبة، الأنقاض والهدم في كل مكان، وحتى القطط والكلاب كانت تبدو مرهقة بائسة حزينة قد خرجت لتوها من تحت الركام.

لكن في الجانب الآخر، لأول مرة في حياتي لم أشعر بالغربة في كل المدن التي زرتها، كنت لأول مرة بين أهلي وناسي، أتحدث لغتي ولهجتي دون أي قلق. في الغربة يشعر المرء أحيانًا بأن الشجر والحجر، وليس البشر وحدهم، يرفضون وجوده ويطلبون ابتعاده، بينما هنا كان الشعور مختلفًا تمامًا، إذ على الرغم من كل الدمار والإرهاق الذي تعاني منه البلاد بدت مرحّبةً مشتاقةً للقاء أبنائها الغائبين.

خلال زيارتي القصيرة زرت دمشق وحمص وحماة وإدلب، إضافة إلى مسقط رأس أسرتي، قارة، قابلت الكثير من الأقارب ومعارف الأسرة الذين لم ألتقهم من قبل، استمعت للكثير من القصص والحكايا، عن ماضي هذه المدن، عن قصصهم في الثورة، عن المآسي التي شهدوها، كان الاستماع لما يحكيه الناس عملاً شائقاً لكنه في الوقت نفسه كان أمراً شاقّاً، إذ لا يمكن أن يتخيل عقل بشري بشاعة الجرائم وسوء الظروف التي شهدتها سوريا خلال تلك الحقبة المظلمة، ومهما كان مقدار متابعتنا من الخارج، لن يكون السامع كمن عاش كل هذه الأحداث.

لاحظت في كل الذين قابلتهم من الأقارب والمعارف، وحتى من الباعة والسائقين الذين تعاملت معهم، ارتياحاً بعد خلاصهم من كابوس النظام المخلوع، وكأنهم تخلصوا من حمل ثقيل كان يجثم على صدورهم، ولكن في الوقت نفسه كان واضحاً مدى الإرهاق والتعب الذي يعانونه.

لم يكن الناس الذين قابلتهم على اطلاع بكثير من القضايا التي تثار على وسائل التواصل الاجتماعي، كان الشعور الغالب عليهم هو الأمل الحذر تجاه مستقبل البلاد، وكانت الرغبة المشتركة عند الجميع هي أن تستقر البلاد وتتحسن ظروفها الاقتصادية بغض النظر عن التفاصيل السياسية التي تُناقَش يومياً في وسائل التواصل الاجتماعي وتُثار في الإعلام.

ترك النظام المخلوع ندوباً وصدمات نفسية يصعب أن تندمل في قلوب الناس وذاكراتهم، إذ كان كل من قابلته يستذكر قريبه الشهيد، أو صديقه المفقود، أو حيّه المدمّر، أو لحظات الرعب من الطائرات الحربية التي تضرب بشكل عشوائي؛ لم يخلُ أيّ بيت زرته من قصة من هذه القصص، إذ كان لدى كل أسرة شهيد ومفقود ومهجّر، وهذا يزيد من حجم التحديات في موضوع تحقيق العدالة الانتقالية وبناء السلم الأهلي، إذ حفظت من جزء لا بأس به ممن قابلتهم كلاماً يدل على رغبتهم بالعدالة ممن ارتكب بحقهم هذه الجرائم.

بالنظر للوضع العام في البلاد، لاحظت في الأيام الأولى تدهوراً عاماً في معظم الخدمات، فالبلاد منهارة في كل القطاعات بكل ما تعني هذه الكلمة من معنى، فعلى سبيل المثال كانت الكهرباء لا تأتي سوى ساعتين أو ثلاثة في اليوم، الانتشار الأمني في دمشق كان ضعيفاً جداً، ولم يكن هناك وجود فعلي لشرطة المرور وكانت الفوضى تشل حركة السير، وغيرها من المشكلات.

لكن في كل يوم يمر كنت ألاحظ بنفسي تحسن الوضع بشكل تدريجي، إذ زادت ساعات الكهرباء، وتحسن الانتشار الأمني وانتشار شرطة المرور في المدينة. كان التحسّن سريعاً وملحوظاً، وهذا يبعث على الأمل والتفاؤل بإمكانية تجاوز هذه المصاعب وحل هذه المشكلات، وربما في وقت أسرع مما نتخيل، بشرط أن يستمر العمل بالزخم نفسه.

اضطررت للذهاب لعدد من المؤسسات الحكومية، وكان التعامل فيها سلساً سريعاً ولم تأخذ مني أي معاملة أكثر من 5 دقائق، وكان تعامل الموظفين جيداً جداً، وأجمع كل من قابلتهم على أن وضع المؤسسات الحكومية تحسّن بشكل خيالي مقارنة بوقت النظام البائد الذي كان يُعطّل المعاملات ويبتز المواطنين لدفع الرشاوى ويُعقّد الأمور.

جميع من التقيتهم كان يشهد بحدوث تحسّن ملموس في أداء المؤسسات الحكومية، وعن تبدّل سلوك عناصر الشرطة والجيش مقارنةً بما كان عليه الحال في ظل النظام المخلوع. لذا، فإن على الحكومة الوليدة أن تحافظ على هذه الصورة الإيجابية، وألا تسمح للبيروقراطية أن تُفسِد هذه الصورة، وألا تتهاون مع أي تجاوز يصدر عن موظف حكومي أو عنصر من القوات المسلحة، فالتساهل في هذه الانتهاكات سيؤدي إلى فقدان الثقة في الأوساط الشعبية، وهو رأسمال لا يمكن التفريط به.

كما يجب أن تتصدر العدالة الانتقالية جدول الأولويات، إذ إن وجود من تلطخت أيديهم بالدم أو بالغوا في ولائهم للنظام المخلوع في مواقع المسؤولية، أو استقبالهم بأذرع مفتوحة من قبل بعض المسؤولين، يثير الغضب في نفوس الناس، ويزرع في القلوب بذور الشك في نوايا الحكومة الجديدة. وقد رأينا كيف بدأت بوادر هذا السخط تتجلّى في أحداث الساحل مطلع آذار/مارس الماضي، حيث وقعت أحداث مؤسفة تُنذر باحتمال توسُّع دائرة العنف من جديد بشكل يُدخل البلاد في حلقة مفرغة من الانتقام والاقتتال الأهلي إذا جرى إهمال ملف العدالة الانتقالية.

من بين الاحتياجات التي لاحظتها خلال زيارتي هي احتياج سوريا الكبير إلى برنامج شامل للصحة النفسية، فقد خلّفت الحرب وراءها الكثير من المآسي والصدمات التي تركت ندوباً لا تمحى من قلوب الناس وذاكراتهم، إذ لا يخلو بيت من شهيد أو معتقل أو جريح، ولا توجد مدينة أو قرية لم تعش تجربة القصف أو الحصار أو التجويع أو التهجير، وهذه التجارب القاسية تحتاج إلى علاج نفسي شامل يساعد في إعادة تأهيل الفرد لبناء مجتمع قوي متماسك.

ذكرت سابقاً أن كل شيء في سوريا بدا متعبًا، متهالكًا، من المباني، إلى المركبات، إلى الحدائق، وحتى الأزقة، تقريباً كل شيء؛ لكن هذا الوضع الصعب برأيي يخفي بين طيّاته بذور النهوض. إذ تحمل سوريا، في حال رُفِعَت العقوبات عنها أو خُفِّفَت، فرصاً هائلة في كل القطاعات والمجالات وهذه الفرص ستنعكس بشكل مباشر على أبناء البلد الذين سيكونون في مقدمة من يشاركون في نهضة البلاد، بالإضافة إلى المغتربين واللاجئين ممن اكتسبوا خبرات متنوعة في الخارج، حيث ستتوفر فرص كبيرة لهم لإثراء البلاد بخبراتهم وأعمالهم.

لكن، وفي خضمّ الحديث عن الإصلاح والنمو والتنمية، يجب ألا نغفل عن الطبقات المسحوقة، من الأرامل، والأيتام، وكبار السن، والمعدمين، والنازحين في الخيام، وذوي الاحتياجات الخاصة. فلا بد أن تكون لهم الأولوية في برامج الدعم والرعاية، وأن تُصاغ السياسات بما يضمن إنصافهم، لا أن يُتركوا على هامش خطط التنمية بينما تُفتح الأبواب لرؤوس الأموال وأصحاب النفوذ وحدهم.

ختامًا، تحتاج سوريا اليوم إلى تكاتف جميع أبنائها لتجاوز هذا الوضع الحرج، خصوصًا المغتربين في الخارج الذين يملكون الطاقة والخبرات اللازمة للمساعدة في تحسين الكثير من القطاعات والمجالات. مسألة العودة ليست سهلة بالتأكيد، وسيضطر الشخص العائد إلى تقديم الكثير من التضحيات، لكن مسألة العودة برأيي تدخل ضمن فرض الكفاية.

مقالات الكاتب

بكالوريوس في قسم الفلك وعلوم الفضاء من جامعة أنقرة، مهتم بالشأن التركي وعلاقته بقضايا اللاجئين السوريين وقضايا السورية، ونشر وشارك في إعداد عدد من التقارير والمقالات حول هذا الموضوع ضمن الوحدة المجتمعية في مركز الحوار السوري

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى