أقلام المنتدى

مواقف شريحة من المُجنّسين في تركيا تجاه العودة إلى سوريا

عانى الشعب السوري الكثير خلال العقود الماضية تحت حكم نظام الأسد، إذ عاش في الرعب والخوف، وقاسى الاعتقالات والتعذيب والإهانات، وواجه القصف والقتل والتهجير، وهاجر الملايين لدول الجوار أو لدول أخرى في طرق خطرة، ومات العديد منهم غرقاً في البحار أو برداً في الغابات أو برصاص قوى حرس الحدود في الدول التي حاولوا اللجوء لها، وعاش الملايين من أفراد الشعب السوري تجربة الغربة ومصاعبها، ووصل العديد منهم إلى مرحلة متقدّمة من الضيق وانعدام الحيلة بسبب تكالب الظروف عليهم من كل حدب وصوب.

واليوم بعد سقوط نظام الأسد، انفتح أمام السوريين أفق جديد من الفرص، مثل العودة للبلاد من جديد والمشاركة في عملية إعادة إعمارها، وخدمة البلاد بالخبرات التي اكتسبوها في ثورتهم وفي غربتهم، والاستقرار في بلدهم بعد سنوات من التشرُّد والاغتراب والتعرُّض للعنصرية في بلدان اللجوء.

حصل قرابة 250 ألفاً من السوريين في تركيا على الجنسية التركية[1]، وتعلّم بعضهم في جامعتها واندمجوا في سوق العمل فيها، وبدؤوا بإنشاء حياة مستقرة قياساً إلى تجربة اللجوء والنزوح المتكرر؛ وذلك خلال سنوات مرّت فيها الثورة السورية بأضعف حالاتها، وتسلّل اليأس إلى قلوب الكثير من السوريين بالعودة إلى بلادهم، لكن انقلبت الظروف بعد سقوط نظام الأسد البائد، وبات أمام السوريين المهجّرين فرصة للعودة إلى بلادهم والاستقرار فيها، لذا ظهرت أهمية استطلاع رأي السوريين المجنّسين في تركيا حول هذا التحوُّل ونظرتهم تجاه العودة إلى سوريا بعد سقوط نظام الأسد.

يسعى هذا التقرير إلى تقديم صورة عامة عن آراء شريحة من السوريين المجنّسين في تركيا باستخدام الأسلوب الوصفي التحليلي، وذلك بالاعتماد على نتائج استطلاع رأي سريع أُجريَ على شريحة من المجنّسين السوريين في تركيا حول وجهة نظرهم تجاه التحوّل الذي جرى في سوريا وآرائهم تجاه مستقبل سوريا، ومدى استعدادهم للعودة إلى سوريا والعمل فيها[2].

الشريحة المستهدفة:

أُجريَ استطلاع الرأي على شريحة متنوّعة من السوريين المجنّسين في تركيا، إذ كانت نسبة الذكور المشاركين 74% والإناث 26%؛ فيما كانت الشرائح العمرية متنوعة، إذ كان 44% منها فوق 41 عاماً، و28% بين 18-25 عاماً، و18% بين 31-40 عاماً، و10% بين 26-30 عاماً، بينما تنوّعت المحافظات التي جاء منها المشاركون، وشملت جميع المحافظات السورية، كما تنوّعت المدن التي يقيم فيها المشاركون في الاستطلاع في تركيا، مع وجود إسطنبول وأنقرة في المقدمة نظراً لكونهما أكبر مدينتَين وفيها العديد من الجامعات وفرص العمل التي تجذب الشباب إليها.

كانت الغالبية العظمى من الشريحة المستهدفة (86%) من الطلاب أو خريجي البكالوريوس فما فوق، فيما كان 14% من مستوى دراسة ثانوية أو أقل، كما كانت التخصُّصات التي يدرسونها أو يعملون بها متنوّعة في شتى المجالات؛ وبالنظر إلى عدد السنوات التي عاشوها في سوريا قبل قدومهم لتركيا، أجاب 58% بأنهم عاشوا في سوريا 15 عاماً أو أكثر، و16% عاشوا في سوريا 6-10 أعوام، و14% عاشوا في سوريا 11-14 عاماً، و8% ولدوا خارج سوريا ولم يعيشوا بها سابقاً، و4% فقط عاشوا في سوريا 1-5 أعوام.

الانتماء:

عند سؤال المشاركين حول شعورهم بالانتماء، إذا ما كان للجنسية السورية الأصلية أم للجنسية التركية الجديدة، أجاب الغالبية بنسبة 82% بأنهم يشعرون بالانتماء للجنسية السورية أكثر من التركية، فيما كانت نسبة الذين يشعرون بالانتماء لتركيا أكثر من سوريا هي 18% فقط.

تشير هذه النتيجة إلى أن معظم المجنّسين السوريين في تركيا لم يفقدوا انتماءهم لسوريا، وقد تكون العوامل الأساسية لهذا التوجُّه هو تحرُّر سوريا من نظام الأسد وبداية مرحلة جديدة للدولة السورية تكون فيها ممثلة للسوريين ومدافعة عن حقوقهم، كما أن طريقة منح الجنسية التركية الاستثنائية وتعرُّضها للتجاذبات السياسية في الاستحقاقات الانتخابية، ألقت بظلالها لجهة التخوف من سحب الجنسية عند تغير إدارة البلد[3]، وإضافة إلى ذلك كان هناك رفض مجتمعي من قبل بعض الأتراك تجاه منح الجنسية للسوريين، وهو ما انعكس على المعاملة معهم[4]، ليترسخ عند بعض السوريين المجنّسين الشعور بأنهم مواطنون من درجة ثانية في بعض الأحيان، خصوصاً عند محاولتهم استئجار المنازل والدخول في صفقات البيع والشراء والتجارة.

مشاعر الشباب تجاه سوريا قبل سقوط نظام الأسد… شوق ويأس:

سئِل المشاركون عن شعورهم تجاه سوريا في السنوات الماضية قبل سقوط النظام، وكانت معظم الإجابات تعكس شعور المشاركين بالحنين والاشتياق إلى بلادهم للعودة إليها، مع اليأس من تحقق هذا الحلم بسبب استمرار نظام الأسد في السلطة، وبسبب تعقُّد الأوضاع السياسية والأمنية والاقتصادية في البلاد بشكل غير قابل للحل.

بل عبّر قرابة 20% من المشاركين بأنهم كانوا يكرهون سوريا ويكرهون كل ما يرتبط فيها أو لا يشعرون بأي انتماء لها بسبب المآسي التي مروا بها، وبسبب انعدام وجود أي حل في الأفق لهذه المشكلات، وكانت مشاعر الخوف والقلق من المستقبل عامة عند معظم المشاركين.

تُظهر هذه النتائج الشعور العام السائد عند معظم السوريين، وليس فقط المجنّسين في تركيا، إذ كانت المؤشرات السياسية تشير إلى عودة العلاقات العربية مع نظام الأسد رغم كل جرائمه[5]، بل وكانت هناك بوادر للتطبيع معه حتى من طرف تركيا[6] بل وحتى بوادر تطبيع أوروبي[7]، وبالنظر للجوانب الأخرى، فقد زاد مستوى الخطاب العنصري في تركيا وتجلّت آثاره في أحداث قيصري في شهر يوليو/تموز الماضي[8]، كما تدهور الوضع الاقتصادي في تركيا في السنوات الأخيرة، وضعفت القدرة الشرائية عند الكثير من سكان تركيا، خصوصاً عند السوريين الذين يعمل معظمهم في وظائف ومهن متوسّطة أو متدنّية الدخل، وهذا زاد من مستوى القلق واليأس وانعدام الحلول عند السوريين[9].

عودة الأمل بعد سقوط نظام الأسد:

في إجابات المشاركين حول كيفية تغيُّر مشاعرهم تجاه سوريا بعد سقوط نظام الأسد، ظهرت مشاعر الفرح والفخر والأمل، إذ عبّر أكثر من 90% من المشاركين عن عودة الانتماء والفخر بهويتهم السورية، وعن تفاؤلهم الكبير في العودة والاستقرار في وطنهم، كما قال البعض إنه ترك مشاعر الثأر والغضب التي راكموها في السنوات الماضية نتيجة المآسي التي تعرضوا لها، وبدؤوا الآن بالتركيز على تحقيق التغيير لبناء مستقبل أفضل للبلاد.

عبّر بعض المشاركين أيضاً عن شعورهم بأن سوريا اليوم باتت تحتاج أبناءها لإعادة إعمارها من جديد، مشيرين أيضاً إلى أهمية استغلال الآفاق الجديدة التي فُتِحَت بعد سقوط نظام الأسد، الأمر الذي زاد إيمانهم بقدرتهم على التأثير والعمل في سوريا في شتى المجالات.

 تُعبّر هذه الإجابات عن شعور غالبية السوريين -وليس فقط المجنسين في تركيا- بالفرح والفخر والأمل بعد سقوط نظام الأسد، وتؤكد هذه الإجابات قوة انتماء السوريين المجنّسين في تركيا لبلادهم رغم الغربة الطويلة، وذلك بسبب عوامل عديدة؛ منها القرب الجغرافي والكثافة السكانية للسوريين في تركيا التي أزالت جزءاً من مشاعر الغربة وخفّفت من آثار الذوبان في هوية المجتمع المضيف، بالإضافة لكون السواد الأعظم منهم هم من مؤيدي الثورة ومعارضي نظام الأسد، كما أن الوضع في تركيا بالنسبة للسوريين -حتى للمجنّسين- ليس مثالياً كما سبق ذكره في فقرات سابقة.

نيّة العودة إلى سوريا:

عند سؤال المشاركين حول نيّتهم العودة إلى سوريا في المرحلة المقبلة، كانت إجابة 62% من المشاركين بأنهم ينوون العودة والاستقرار في سوريا بشكل نهائي، فيما أجاب 38% بأنهم يُفكّرون الاستمرار بالعيش في تركيا مع زيارة سوريا بشكل متكرر، بينما كانت نسبة الذين لا يريدون زيارة سوريا أبداً 0%.

وبالنظر إلى تفصيل أكبر لهذه النسبة، نجد أن نسبة الذكور الذين يُفكّرون بالعودة بشكل نهائي تُقارب الثلثين، فيما كانت هذه النسبة عند الإناث تقارب النصف، وهذا قد يكون بسبب شعور الذكور بالضيق في تركيا أكثر من الإناث نظراً لتحمُّلهم مسؤوليات إعالة منازلهم، واضطرارهم للدخول في سوق العمل، كما أن قرارات العودة النهائية تكون مرتبطة بقرارات ربّ المنزل الذي يتحمّل مسؤولية الإنفاق على الأسرة، وهو الزوج أو الأب في الغالب كما هو معتاد في المجتمعات العربية الإسلامية.

وبتحليل الإجابات وفقاً للشرائح العمرية، فقد كانت النسبة متقاربة في جميع الشرائح العمرية، إذ كان ثلثا الإجابات في جميع الشرائح تدعم فكرة العودة والاستقرار بشكل نهائي، فيما كان الثلث يُفكّرون بالبقاء في تركيا مع زيارة سوريا بشكل متكرر، وهذا غير مستغرب، إذ يعاني السوريون في تركيا من جميع الشرائح العمرية من مشكلات متشابهة، خصوصاً من مشكلات الخطاب العنصري وقلة فرص العمل وضعف الوضع الاقتصادي، ما يجعل نسبة كبيرة من جميع الفئات العمرية تُفكّر بمغادرة تركيا والاستقرار في سوريا.

أما بالنظر للمستوى التعليمي، فقد كانت الإجابات متشابهة تقريباً، إذ أجاب 66% من جميع الفئات بأنهم يرغبون بالعودة إلى سوريا والاستقرار بشكل نهائي، فيما كان 33% يُفضّلون البقاء في تركيا مع زيارة سوريا بشكل متكرر، ما عدا فئة خرّيجي الثانوية فما دون، إذ كانت نسبة 66% يفكرون بالبقاء في تركيا مع زيارة سوريا بشكل متكرر، وقد يعود هذا إلى توفُّر فرص عمل كثيرة للفئات العمالية التي لا تحتاج شهادات جامعية في سوق العمل التركي مقارنة بقلة فرص العمل المتوفرة لخرّيجي الجامعات، وهو ما يدفع هذه الفئة للتمسُّك بالبقاء في تركيا حالياً في ظل ضبابية وضع سوق العمل في سوريا في المرحلة الحالية.

أما عند سؤال المشاركين عمّا إذا كانوا يعتقدون أنه توجد في سوريا فرص عمل مناسبة لتخصُّصاتهم التي تخرّجوا منها في الجامعة أو التي يعملون فيها حالياً، أجاب 88% بأنهم يعتقدون بوجود هذه الفرصة، فيما قال 12% إن هذه الفرص غير موجودة في الوقت الحالي.

وبالنظر إلى رأي المشاركين تجاه العوائق التي يرونها تُصعّب من عودتهم إلى سوريا، فقد تنوّعت الإجابات، إذ قال البعض إن الرواتب في سوريا منخفضة جداً، وإن الخدمات والبنى التحتية ما زالت سيئة وبحاجة إلى تحسين، وإصلاح هذه المشكلات مرتبط أيضاً برفع العقوبات الغربية عن سوريا بحسب آراء المشاركين، فيما قال آخرون إن استمرار وجود قوات “قسد” في مدنهم شرق الفرات يُعيق عودتهم لسوريا، في حين قال آخرون إنهم هم أو أطفالهم يدرسون حالياً في تركيا لذا لن يتمكنوا من العودة بسبب ظروفهم الشخصية.

من العوائق الأخرى المذكورة هي عدم وجود الأهل في سوريا، إذ تفرّق الكثير من الأسر في بلدان اللجوء، وتحتاج عودة هذه الأسر ولم شملها في سوريا الكثير من الوقت والجهد؛ بينما قال البعض الآخر إن منازلهم مدمّرة ولا يوجد لديهم مكان يعودون إليه في الوقت الحالي، وأشار البعض إلى أن مستوى الرفاهية الذي يعيشون فيه في تركيا غير موجود في سوريا، ما يُصعّب عودتهم واستقرارهم فيها بشكل نهائي في الوقت الحالي، فيما قالت إحدى المشاركات إن الأعراف الاجتماعية في سوريا تختلف عما اعتادوه في تركيا ما يُصعّب انتقالهم إليها للاستقرار!

سُئلَ المشاركون عما إذا كانت لديهم أفكار لمشاريع أو مبادرات تُحسّن من الوضع في سوريا، وكانت العديد من الإجابات متعلقة بتحسين القطاع التعليمي وإنشاء مبادرات لرفع مستوى الطلاب والطالبات، كما اقترح البعض إطلاق مبادرات دعوية، فيما رأى البعض الآخر أهمية إطلاق عملية تحوُّل رقمي في المؤسسات الحكومية لتسريع عملها وتوفير الوقت والمال والجهد، كما اقترح أحد المشاركين الاستفادة من التجارب التركية في مجال الزراعة، مثل الاستفادة من تقنيات الري الموجودة في تركيا، وتأسيس التعاونيات الزراعية التي تُوحّد عمل المزارعين وتحسّن من جودة المنتجات.

تظهر هذه النتائج استعداد شريحة واسعة من المجنّسين السوريين على تقديم ما لديهم من خبرات وإمكانيات في عملية إعادة الإعمار والبناء في سوريا، كما تظهر بوضوح شعور المجنّسين بوجود احتمال في نشوء فرص كبيرة للعمل في سوريا في التخصُّصات التي درسوها وعملوا فيها، وهذا يزيد من حماسهم تجاه العودة للبلاد والاستقرار فيها في المستقبل.

لكن في الجانب الآخر تظهر هذه الإجابات وجود عوائق تُبطّئ من وتيرة عودة المجنسين في تركيا إلى سوريا؛ أبرزها البنى التحتية السيئة والدمار الواسع الذي لحق بالمدن والقرى[10] وضعف الرواتب، وهذا يستلزم التخطيط لعملية إعادة الإعمار وإعادة بناء الاقتصاد من أجل تسريع وتيرة عودة السوريين في الخارج.

إضافة إلى ما سبق، توجد عوائق أخرى تُصعّب عملية العودة أو زيارة سوريا بالنسبة للمجنسين -ولغير المجنسين أيضاً- عبر المعابر البرية، مثل تقلّب القوانين الناظمة لعمل المعابر البرية بين سوريا وتركيا من الطرفين وعدم وجود المعلومة الصحيحة في المتناول في كثير من الأحيان، إذ تؤدي فوضى المعلومات هذه إلى تعقيد أمور سفر الكثيرين، كما يعاني عدد من المسافرين من مشكلة قلة عدد ساعات عمل المعابر، في الطرف السوري تحديداً[11]، ما يجعل الكثير من الأسر تعلق لساعات في المناطق الحدودية في المعابر لحين انتهاء معاملاتهم[12].

ومن المشكلات الأخرى التي تعيق عودة واستقرار بعض العائلات في سوريا، من المجنسين وغير المجنسين، هي ضعف وضعهم المادي، إذ تعيش الكثير من الأسر على رواتب ضئيلة بالكاد تكفي احتياجاتهم اليومية الأساسية، مع عدم وجود مدخرات لهم تعينهم على الانتقال وتأسيس حياة جديدة في سوريا، وهذا في ظل ارتفاع أسعار تذاكر السفر وأجور نقل الأثاث بين تركيا وسوريا[13].

توجد لدى السوريين المجنّسين في تركيا رغبة كبيرة في العودة إلى سوريا، ولديهم الكثير من الأفكار والخبرات التي اكتسبوها في سنوات غربتهم ويودون خدمة بلادهم بها، لكن هذه الرغبة تصطدم بظروف صعبة تعيق هذه العملية، لذا من المهم على الحكومة السورية الجديدة أن تضع خططاً على المدى القريب والمتوسط والبعيد لتذليل الصعوبات والاستفادة من الخبرات التي اكتسبها السوريون في بلاد المهجر.

العلاقة مع تركيا:

عند سؤال المشاركين عن رؤيتهم لمستقبل علاقتهم مع تركيا، أجاب عدد منهم بأنهم يرون تركيا وطنهم الثاني، وأنهم سيظلّون يشعرون بالامتنان على كل ما قدّمته تركيا وشعبها لهم، وأنهم سيعملون على مدّ الجسور بين تركيا وسوريا، وذكروا وجود صداقات وعلاقات وثيقة مع الشعب التركي وأنهم سيحافظون على هذه العلاقات التي يعتزّون بها بحسب وصفهم، فيما أجاب البعض بأن علاقتهم مع تركيا ستنحصر في مجال العمل والاستثمار والسياحة، وأنهم يرون أنفسهم ضيوفاً في تركيا وسيغادرونها في المستقبل.

كما سُئلَ المشاركون عمّا إذا كانوا يرون أن عليهم واجبات تجاه تركيا بسبب الجنسية التي حصلوا عليها، وقال معظم المشاركين إنهم يرون أن عليهم واجب الاحترام لتركيا وشعبها نظير ما قدّمته لهم وللشعب السوري، وأنه من الواجب الالتزام بكل واجبات الجنسية التركية التي تسري على المواطن التركي، فيما أجاب عدد آخر منهم بأنهم يرون أن تركيا وطنهم وأنهم هم وأبناؤهم سيدافعون عن تركيا بقدر استطاعتهم كما تنصّ قوانين المواطنة التركية، وإنهم سيعملون لمصلحة تركيا وسيدافعون عن مقدراتها، وهؤلاء كانوا من بين الأشخاص الراغبين بالاستقرار في تركيا.

بينما قالت النسبة الكبرى من المشاركين إنهم يحترمون تركيا ويقدّرون مواقفها الجيدة تجاههم، سواء من الحكومة أو من الشعب، لكنهم يضعون مسألة العودة إلى سوريا في الأولوية، وإنهم سيعملون على إعادة بناء وطنهم الأم وتحسين واقعه بعد سنوات الحرب.

لطالما كانت علاقة السوريين مع تركيا علاقة مميزة، إذ يشعر الكثير من السوريين بالارتباط العاطفي مع تركيا والشعب التركي نظير معيشتهم لسنوات في هذه البلاد وتكوينهم علاقات مع الشعب التركي، رغم كل العوائق والتشويش والاستقطاب السياسي التركي وخطاب الكراهية، ولهذا ليس من المستغرب أن تكون الكثير من الإجابات تُشدّد على أهمية هذه العلاقة بين الشعبين، وعلى مشاعر الود والاحترام التي يبديها هؤلاء تجاه تركيا، لكن في الجانب المقابل شابت هذه العلاقة العديد من العوائق، من أهمها تصاعد العنصرية ضد السوريين وعدم وجود سياسة مستمرة تُشجّع على الاندماج واستخدام موضوع التجنيس أداة في الاستقطاب السياسي في السنوات الأخيرة، وهذا يمكن أن يُفسّر الردود السلبية تجاه هذه العلاقة، إذ يشعر جزء من السوريين بعدم الانتماء لتركيا، وأنهم مجرد ضيوف، حتى بعد أن حصلوا على الجنسية التركية، وهذا أيضاً يشير إلى مشكلة يعاني منها المجنسون في تركيا، ألا وهي استمرار النظرة الشعبية السلبية تجاههم واستمرار التعامل معهم كمواطن من درجة ثانية في كثير من المواقف والأماكن.

 خاتمة:

لم تُغيّر سنوات الغربة واللجوء في تركيا من وطنيّة السوريين وانتمائهم لبلدهم رغم كل الصعوبات التي عانوها، وأحيا سقوط نظام الأسد في نفوس السوريين شعلة الأمل من جديد بعد أن فقد الكثير منهم الأمل وغرق باليأس في ظل ضيق الأوضاع وتراكم المشكلات عليهم من كل جانب، وهذا ليس بمعزل عن السوريين الحاصلين على الجنسية التركية.

تملك فئة المجنسين السوريين في تركيا ميزات مُتعدّدة تجعلها فئة مختلفة عن المجنسين السوريين في أي بلد آخر، إذ إن ارتباطهم بسوريا أقوى نظراً للقرب الجغرافي وللعوامل الداخلية في تركيا التي صعّبت من ذوبانهم داخل المجتمع التركي، بالإضافة لكون الغالبية منهم إما من حاملي الشهادات الجامعية من المتميزين دراسياً، أو من المستثمرين الناجحين في تركيا، كما لديهم شبكة علاقات واسعة في تركيا، وهذا يجعلهم فئة قادرة على تقديم أعمال نوعيّة لسوريا في مرحلة إعادة البناء وتأسيس الدولة من جديد.

أظهرت نتائج استطلاع الرأي أن جزءاً كبيراً من فئة المجنّسين في تركيا متحمّسون للعودة إلى سوريا والاستقرار فيها بشكل نهائي، أو على الأقل زيارتها بشكل متكرر والعمل فيها، إلا أن هذه الرغبة تصطدم ببعض العوائق، أبرزها الوضع الاقتصادي السيئ، وتدهور البنى التحتية، واستمرار العقوبات الغربية التي تجعل بعض المستثمرين يتخوفون من العودة والاستثمار في سوريا.

حل هذه المشكلات مرتبط بوضع خطط قصيرة ومتوسطة وبعيدة الأمد في جميع المجالات، وذلك لكونها مشكلات معقّدة وتمسّ جميع السوريين، ولا يوجد حل سريع سحري لها، لذا فإن عودة المجنّسين في تركيا إلى سوريا ستكون على الأغلب تدريجية، لكن من المهم أن يتواصل صُنّاع القرار مع السوريين أصحاب المبادرات والمشاريع والخبرات في تركيا من أجل مناقشة سُبل الاستفادة من هذه الإمكانيات وتوظيفها في أنسب وأسرع شكل ممكن.

 وفي هذا الصدد يمكن أن نقدم بعض التوصيات:

  • التحاور مع السلطات التركية لتسهيل عمل المعابر البرية بين البلدين، وعدم تعقيد الإجراءات الرسمية على العبور.
  • التواصل مع المؤسسات والمنظمات السورية في تركيا لمعرفة طبيعة وضع الجالية السورية في تركيا بشكل عام، والمجنسين بشكل خاص، بهدف اتخاذ خطوات مناسبة لاستقطابهم إلى سوريا.
  • منح الشركات والمتاجر السورية الموجودة في تركيا تسهيلات ضريبية لتسهيل نقل أعمالهم إلى سوريا.
  • إزالة العوائق القانونية أمام مزدوجي الجنسية في العمل في القطاع الحكومي، إذ كانت القوانين السورية في عهد نظام الأسد تمنع توظيف مزدوجي الجنسية في بعض الوظائف الحكومية، وحتى من الترشُّح لمجلس الشعب[14].
  • إطلاق حملات توعية تُظهر أهمية مساهمة السوريين في المهجر بعملية إعادة الإعمار، وتُبرز قصص نجاح لسوريين عادوا وأسهموا في التنمية.
  • إشراك شخصيات مؤثّرة من المجتمع السوري في تركيا، وخاصة من المجنسين، للترويج لفكرة العودة والمشاركة في إعادة بناء الوطن.
  • إشراك منظمات المجتمع المدني في تركيا وسوريا لتقديم الدعم المعنوي واللوجستي للراغبين في العودة.
  • تقديم حوافز وتسهيلات للتجار السوريين الذين يمتلكون شركات ومصانع في تركيا لافتتاح فروع لهم داخل سوريا.

[1] “بيان بشأن الادعاءات حول عدد الأجانب وجنسياتهم”
[2] اعتمد هذا الاستطلاع على عينة صغيرة الحجم مكونة من 50 شخصًا من السوريين المجنسين في تركيا، تم اختيارهم من شرائح متنوعة بهدف رصد اتجاهات وآراء أولية ضمن هذا المجتمع الكبير الذي يقدّر عدده بحوالي 300 ألف شخص. وعلى الرغم من أن هذه العينة لا تُعد تمثيلية إحصائيًا بالمعنى الدقيق، فإنها توفر مؤشرات أولية مفيدة يمكن البناء عليها لفهم بعض المواقف والاهتمامات السائدة، كما تسهم في توجيه الدراسات المستقبلية نحو القضايا الأبرز التي تستحق التعمق فيها.
[3] “من كلتشدار أوغلو إلى أردوغان: هل ستعطي اللاجئين الجنسية من أجل الحصول على أصواتهم؟”
[4] بحث مركز الحوار السوري مسألة التحديات التي تواجه العلاقة المجتمعية بين السوريين والأتراك بشكل مفصل في كتاب “حياة تحت المجهر: السوريون في تركيا وحديث المجتمع والاقتصاد“.
[11] تعمل المعابر بين تركيا وسوريا بين 9 صباحًا و6 مساءً (خلال شهر رمضان ولم يصدر بيان عن تعديل المواقيت بعد رمضان)، فيما يعمل معبر نصيب مع الأردن بين 8:30 صباحًا و10 مساءً بحسب ما نشرت القناة الرسمية للهيئة العامة للمنافذ البرية والبحرية السورية.
[12] تضم المجموعات في منصة فيسبوك الكثير من الشكاوى والأسئلة التي تتمحور حول هاتين المشكلتين.
[13] من الممكن الاطلاع على لمحة عن الوضع الاقتصادي للأسر السورية في تركيا في تقرير أصدره مركز الحوار السوري بعنوان: “كيف تعيش الأسر السورية متوسطة الدخل في تركيا؟“، 4/8/2024
[14] أسقط برلمان نظام الأسد سابقًا العضوية عن نائبَين بسبب حملهما الجنسية التركية، إذ ينص القانون على اشتراط عدم تمتع المرشح والموظفين في الحكومة بجنسية أخرى غير السورية، لكن بعد سقوط نظام الأسد جرى تعيين عدد من الوزراء والموظفين في الوزارات من مزدوجي الجنسيات، ما يشير إلى تجاوز هذه المشكلة بشكل جزئي، لكن ما زالت بحاجة إلى صياغة قانونية رسمية.
مقالات الكاتب

بكالوريوس في قسم الفلك وعلوم الفضاء من جامعة أنقرة، مهتم بالشأن التركي وعلاقته بقضايا اللاجئين السوريين وقضايا السورية، ونشر وشارك في إعداد عدد من التقارير والمقالات حول هذا الموضوع ضمن الوحدة المجتمعية في مركز الحوار السوري

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى