أقلام المنتدى

كشف مجزرة التضامن وسبل إعمال الحق في معرفة الحقيقة في سوريا

جاء الفيديو الموثق لمجزرة التضامن ليقدم معلومات شبه متكاملة تم الوصول إليها بعد جهود مضنية ومتابعة لسنوات، لتغطي كل التفاصيل التي تجعل الصورة شبه كاملة حول الجريمة، حيث كشف هوية الجناة وانتماءهم ودوافعهم وخلفياتهم بل وجزءاً من سيرتهم. وكذلك أتاح للرأي العام أن يعرف تفاصيل اللحظات الأخيرة للضحايا، ليتبقى كشف هوياتهم وظروف حياتهم تباعاً.

يمثل ما قدمه الفريق البحثي عملياً عدة مراحل مهمة لـ “الحق في معرفة الحقيقة” الذي نقصه المرحلة الأخيرة المتمثلة في مثول الجناة أمام العدالة، وكشفهم عن شعورهم السابق والحالي بعد مواجهتهم بذوي الضحايا أمام الرأي العام. وهو ما يقدم مثالاً عملياً مصغراً عن إعمال هذا الحق حول جميع الانتهاكات بشموليتها في مراحل زمنية طويلة ويعطي صورة مصغرة عن أهميته وحساسيته في سياق العدالة، فما هو هذا الحق؟ وماهي آليات إعماله؟

يعرف الحق في معرفة الحقيقة بأنه “حق الضحايا الذين وقعت عليهم انتهاكات جسيمة بموجب القانون الدولي لحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني، وذويهم، والمجتمع في معرفة حقيقة تلك الانتهاكات التي وقعت، ومعرفة المسئولين عن ارتكابها والأسباب والظروف التي أدت إليها”، ويبرز الحق بوصفه مفهوماً قانونياً مصوناً ومرعياً، باعتباره حقاً عرفياً يحظى باحترام متزايد في الفقه الدولي، ويعني هذا الحق ضمناً معرفة الحقيقة كاملةً ودون نقصان. وتبرز أهميته ودوره في معالجة آلام الماضي وانتهاكاته، من حيث أنه ينهي آلاف الأسئلة التي لا جواب وافياً لها إلا بإعماله، بحيث لا يترك مجالاً للتأويل والتفسير، وتحسم معه الرواية التاريخية مرة واحدة وللأبد، ويصبح من يشكك فيها حتى عرضة للمساءلة القانونية وليس الأخلاقية فقط، وبذلك تصبح معرفة الشعب لتاريخ اضطهاده جزءاً من تراثه ووجدانه وهويته.

لقد نجحت هيئات الحقيقة في التجارب الدولية (لجنة التحقيق في حالات اختفاء الأشخاص في أوغندا في عام1971، واللجنة الوطنية حول اختفاء الأشخاص في الأرجنتين 1983م)؛ في تحديد الكثير من الضحايا والجناة على المستويين الفردي والجماعي، وأماكن الانتهاكات وظروفها وملابساتها، ودور المؤسسات الرسمية فيها، وكشفت أدوار الجهات الخارجية في دعمها، بل وتعمقت في أسباب وخفايا الانتهاكات من خلال البحث في جذورها وخلفياتها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، كما أصبحت تطال القضايا الوطنية المفصلية وصولاً لكشف حقيقة نهب الأموال العامة وطرق الفساد وأساليبه، وقدمت للعدالة الجنائية أدلة وافية وقوائم المجرمين، وللدول برامج عمل طويلة المدى حول الإصلاح القانوني وبرامج حفظ الذاكرة وجبر الضرر المادي والمعنوي .

بالعودة للحالة السورية فإذا كان إعمال الحق بشكل كامل يتطلب إنشاء هيئة حقيقة سورية، وهو ما يرتبط بتحقق الانتقال السياسي، أي أنه غير متاح في المدى المنظور، فهل يجب على السوريين انتظار ذلك، أم يمكن لهم العمل على كشف بعض الحقائق والتحضير لإعمال الحق بشكل كامل مستقبلاً؟

بكل تأكيد إذا كان إعمال الحق بشكله “المعياري” الشامل مستحيل قبل تحقيق الانتقال السياسي، فإن إعماله جزئياً ممكن، بمعنى آخر إن كشف الكثير من الجرائم والانتهاكات أمر متاح، وهو ما تم بالفعل في السنوات الماضية من خلال جهود رصد الكثير من الانتهاكات في سوريا وتوثيقها عبر جهود المنظمات الحقوقية الوطنية والدولية ولجان التحقيق المختلفة، ولعلها جهود تحضيرية واسعة ومميزة للعدالة في سوريا لم تتح للكثير من التجارب الدولية السابقة.

لقد جاء اليوم الجهد البحثي الكاشف لمجزرة التضامن ليقدم نموذجاً متقدماً في هذا السياق وذلك من خلال  تتبعه -قدر الإمكان- لآليات عمل هيئات الحقيقة عادةً من خلال محاولة الإجابة على الكثير من الأسئلة حول خلفيات الانتهاك ونتائجه ودوافعه ومرتكبيه وضحاياه، وهو ما قدم ملفاً حقوقياً رصيناً يبنى عليه في سياق المحاسبة من جهة، ويبنى عليه في حسم في حفظ الذاكرة الوطنية وكشف مصير المختفين وغيرها من أهداف وغايات كشف الحقائق، كما يمكن الاقتداء به كنموذج يعطي دفعاً لاستمرار وتكثيف الجهود في عمليات توثيق الانتهاكات والتركيز على نوعية التوثيق الذي يعد ملفات قضائية أكثر من التوثيق الإحصائي الطابع.

كما تسهم هذه الجهود بشكل أو بآخر في بناء موقف وطني جماعي منيع ومحصن ضد محاولات إسقاط الملف الحقوقي وطي ملف المختفين قسراً بشكل جماعي لحساب حلول سياسية وفق المتاهات الدولية الحالية، وأبرزها: مخاطر الوصول لوثيقة دستورية أو اتفاق سياسي يؤسس لطي الماضي دفعة واحدة تحت ذريعة بناء السلام والقيام بتفريغ الحق في معرفة الحقيقة في مهده.

من جانب آخر فإن الفترة الحالية السابقة لتحقيق الانتقال السياسي تعطي فرصة زمنية هامة للتحضير والتأسيس لإعمال الحق في سوريا مستقبلاً وتأسيس هيئة حقيقة سورية رصينة وقادرة على إنجاز المهام الاستثنائية ومواجهة التحديات الكبرى، ولعلً ذلك متاح من خلال توجه المنظمات الحقوقية والمؤسسات الأكاديمية والمراكز البحثية للبحث العميق والرصين في تجارب الدول المختلفة التي أنشأت هيئات حقيقة؛ وتتبع أبرز العوائق والتحديات المتوقعة وكيفية التعامل معها بما يراعي خصوصية الحالة السورية لجهة العمق الزمني للانتهاكات والحجم الهائل للضحايا والجناة وحجم وتنوع الانتهاكات التي طالت كل منظومة حقوق الإنسان، وحساسية الأبعاد الأخرى كالطائفية والاثنية والدور الإقليمي والدولي.

ولأن إعمال هذا الحق جزئياً حالياً وبشكل شامل مستقبلاً، يحتاج لإمكانات عالية في مقدمتها الإمكانات البشرية الفنية التي تمتاز بصفات عديدة من أهمها الإيمان بحقوق الإنسان والعدالة والخبرات النظرية والعملية الكبيرة، وهو ما لن يتوفر في لحظة واحدة في المستقبل السوري، فلا بد من العمل على تدريب وتأهيل عدد كبير من الشباب السوري، ولعل إدراج مادة دراسية في الجامعات السورية الحرة حول العدالة وهيئات الحقيقة، وفتح باب التخصص في كل جزئية منها بات ضرورة ملحة وليس مجرد ترف ورفاه فكري.

مقالات الكاتب

باحث مساعد في وحدة التوافق والهوية المشتركة يحمل إجازة في الحقوق وحاصل على شهادة الماجستير في القانون العام، ناشط في المجتمع المدني والمجال الحقوقي وقدم عدداً من البرامج التدريبية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى