أربع إستراتيجيات في تطويع الهلال الأحمر السوري: من مجرد أداة إلى جهاز أمني
لطالما كانت النزاعات المسلحة – دولية أم غير دولية- تحمل في طياتها آلاماً ومآسي تخلّف وراءها الكثير من الضحايا، الأمر الذي استنهض أفكار “هنري دونان” لإثارة وعي الناس حول ضرورة وجود فِرَق محايدة “إنسانية” تخفف من ويلات الحروب وتسعى لحماية الإنسان وحفظ كرامته، وهي الجهود الذي أثمرت عن إنشاء “اللجنة الدولية للصليب الأحمر” منذ عام 1863 ليتبعها إنشاء جمعيات وطنية للهلال أو الصليب الأحمر ضمن مبادئ اللجنة الدولية ذاتها، التي تبلورت في سبعة رئيسية، من أهمها: الحياد، والاستقلال.
في سوريا أُنشئت جمعية “الهلال الأحمر العربي السوري” في دمشق عام 1942 على يد مجموعة من الأطباء، والتي اتخذت صفة “جمعية للنفع العام”؛ واعتُرف بها من قبل اللجنة الدولية للصليب الأحمر عام 1946 بالتعميم رقم 375، لتستمر أعمال الجمعية على هذا الأساس القانوني إلى مرحلة استيلاء البعث على السلطة في سوريا عام 1963، وفي معرض تقويضه استقلالية المجتمع المدني السوري جاء المرسوم التشريعي رقم 117 لعام 1966، ليتحول الاسم إلى “منظمة الهلال الأحمر العربي السوري”، ويرأسها فخرياً رئيس الدولة، وتُربط برئاسة مجلس الوزراء بدلاً من وزارة الشؤون الاجتماعية مع تمتعها بالشخصية الاعتبارية المستقلة.
مع بداية حقبة نظام الأسد اقتصر تدخل النظام وأجهزته الأمنية على ما كان يطبقه على بقية منظمات المجتمع المدني من محاولة السيطرة على قرارها والحدّ من استقلالها وإلحاقها بسياساته بحيث تكون داعمة لها ومنسجمة معها. إلا أنه بعد عام 2003، كان هنالك تزايد في أدوار المنظمة تبعاً لتولّيها مسؤولية إدارة عددٍ من برامج مساعدة اللاجئين العراقيين الرئيسية التي نشأت عقب الغزو الأميركي للعراق، والتي أدت إلى ارتفاع عدد المتطوعين الذين انضمّوا إليها، وهو ما أكسبها مصداقية على الصعيدين المحلي والدولي.
مع اندلاع الثورة السورية وما رافقها من صعود أدوار المنظمة بشكل كبير مع تزايد أعداد النازحين وتزايد أعداد المشاريع الدولية والأممية المقدّمة لسورية، سعى نظام الأسد بداية إلى تطويعها وإخراجها عن مبادئ الحياد والاستقلالية، ومن ثم تحويلها إلى إحدى الجهات الداعمة لمجهوده الحربي المباشر ضد شرائح الشعب السوري؛ وذلك عبر أربعة تكتيكات رئيسية كمزيج ما بين النصوص والممارسات.
جاءت الخطوة الأولى مع انطلاق الثورة السورية عام 2011، حيث أصدر نظام الأسد قراراً بتجميد الانتخابات داخل منظمة الهلال الأحمر، وهو ما يعني اللجوء إلى آلية تعيين أعضاء الفروع من قبل مجلس الإدارة والمكتب التنفيذي، ثم تعديله المادة 20 من النظام الداخلي الخاص بالمنظمة ليحوز بموجبها رئيس مجلس الوزراء صلاحية تعيين رئيس منظمة الهلال الأحمر، الأمر الذي يتيح للنظام تعيين شخصيات مقربة منه في مناصب مهمة داخل المنظمة، وهو ما حصل في تعيينه رجل الأعمال الموالي “خالد حبوباتي” رئيساً للهلال الأحمر نهاية عام 2016، وهو من خارج أعضاء المنظمة، وكان صاحب أول ترخيص لنادي قمار عام 2010، ويُعد صديقاً شخصياً لعائلة الأسد، والأمر ذاته ينطبق على مدير الهلال الأحمر في حلب هائل عاصي الذي وصل إلى هذا المنصب بفضل علاقاته الزبائنية مع قادة الفروع الأمنية في حلب.
أما الخطوة الثانية فيمكن تسميتها بـ “سياسة التطهير”، حيث ارتكب نظام الأسد وخاصة في السنوات الأولى للثورة مختلف الانتهاكات بحق أعضاء منظمة الهلال الأحمر الذين سعوا إلى التمسك -ولو بالحدود الدنيا- بمبادئ المنظمة كالحياد والاستقلال عبر عمليات الترهيب والابتزاز والتعذيب والإخفاء القسري. على سبيل المثال وثقت عدة تقارير حقوقية اعتقال نظام الأسد العديد من المتطوعين والمسعفين الميدانين وقتلهم أحياناً بسبب إسعافهم المتظاهرين في دوما وحمص؛ فضلاً عن إطلاق النار على سيارات الإسعاف من قبل الشبيحة، إلى جانب عمليات الإبعاد من المنظمة عبر اتهام بعض أعضائها بنقل السلاح وإسعاف المسلحين، وقد طال ذلك مسبقاً شخصيات محورية في المنظمة كمديرها وأمين صندوقها ومدير قسم إسعافها بسبب توازنهم النسبي في الاستجابة للاحتياجات الإنسانية وتجاوز السقف الأمني الذي حدده نظام الأسد.
جاءت الخطوة الثالثة مع سياسة التطهير تلك من خلال ما يمكن تسميته بـ “عمليات الاستيلاء” عبر تسلّل ممنهج للشبيحة والعناصر الأمنية والمقربين من الضباط والبعثيين داخل المنظمة تباعاً إلى المنظمة والسيطرة على مفاصل عملها، يعزز ذلك ما كشفته شهادات ناجين من الاعتقال في مسالخ الأسد حول مشاركة بعض أعضاء الهلال الأحمر في عمليات التعذيب الوحشي كما حصل في حالة الصحفي أحمد الصيصي، الذي كشف معلومات حول توظيف المنظمة لـ “شبيحة” مارسوا التعذيب والقتل بحق المعتقلين في سجون الأسد.
جاءت الخطوة الرابعة كمحصلة عملية للخطوات السابقة، وهي تحويل الهلال الأحمر ممّا يُفترض أنها “منظمة إنسانية حيادية مستقلة” إلى مؤسسة شبه رسمية تابعة للنظام عملياً تساهم في دعم آلته العسكرية في الحرب على السوريين، على سبيل المثال في الوقت الذي كان المجتمع الدولي يندد فيه بآثار الحملات العسكرية المتلاحقة لقوات النظام على مدينة حلب بين عامي 2013-2016، كانت منظمة الهلال الأحمر تقدّم لقواته، وبالأخص ميليشيات قوات النمر موادَّ غذائية وأغطية وخياماً. لا يقتصر الأمر على عمل المنظمة في حلب فحسب، بل بحكم أن المنظمة باتت شريكاً حصرياً لجميع الوكالات الإنسانية العاملة في سوريا، فإنها كانت تُغدِق “للمنظمات غير الحكومية” الداعمة لمجهود نظام الأسد العسكري، عبر تقديم مختلف أنواع المساعدات الإنسانية لجميع عناصر الأمن والجيش إلى جانب أسر الشبيحة والعسكريين المصابين، إلى جانب تلبية احتياجات القطعات العسكرية من الغذاء والخيام والملابس، في الوقت الذي كانت فيه المنظمة تحرم أسر المعارضين للنظام وأقرباءهم من هذه المساعدات، بل كانت تستخدم الأخيرة سلاحاً من أجل إجبار السكان لمراجعة الفروع الأمنية، كما حصل في مدينة درعا البلد مع المسجّلين على قوائمها، حيث طالبتهم بالتوجه لدرعا المحطة حيث الحضور الأمني المكثف لتحديث بياناتهم؛ وهو ما وضع الأهالي أمام خيارين: إما تحديث بياناتهم في درعا المحطة وبالتالي تحويلها للفروع الأمنية الموجودة في المنطقة للحصول على سلال المساعدات، أو حرمانهم منها نهائياً في حال الرفض.
يُظهر ما سبق نجاح إستراتيجية نظام الأسد في السيطرة على منظمة الهلال الأحمر، وتوظيفها من أجل السيطرة على المساعدات الإنسانية إلى سوريا بمختلف أنواعها، وتوجيهها بما يدعم نظام الأسد عسكرياً وأمنياً ولوجستياً، حيث تشير أفضل التقديرات إلى أن ما بين 2-18% من معونات الأمم المتحدة تصل فعلياً إلى السوريين المحتاجين، في حين أن النسبة الأكبر التي قد تصل إلى 80% تذهب إلى دعم نظام الأسد وآلته العسكرية.
بناءً عليه ينظر الكثير من السوريين والمنظمات الحقوقية إلى أن الهلال الأحمر لا يعدو أن يكون جهازاً رسمياً تابعاً لنظام الأسد يقوم تحت القشرة الإنسانية التي يغطي بها نفسه، بأدوار لوجستية تتمثل في دعم الميليشيات العسكرية والأمنية التابعة للنظام، وأدوار أمنية تتجسد في تزويد أجهزته الأمنية بالمعلومات الخاصة بالمدنيين السوريين، ووصل الأمر مؤخراً إلى أدوار سياسية ظهرت في سعي الأسد لتوظيف هذا القناع الإنساني الذي يستند إلى تاريخ المنظمة وعضويتها في الحركة الدولية للهلال والصليب الأحمر ومبادئها؛ لدعم مساعيه في فكّ العزلة الدولية عنه، والضغط لتخفيف العقوبات المفروضة على المؤسسات والشخصيات التي أجرمت بحق السوريين.
وفق ما تقدم، يحق للسوريين المطالبة والضغط لمنع توجيه الدعوة لهذه المؤسسة لحضور مؤتمر بروكسل الذي سيخصَّص لدعم ضحايا كارثة الزلزال في تركيا وسوريا؛ لأنها بطبيعتها الهيكلية والوظيفية الحالية هي أبعد ما تكون عن كونها “منظمة إنسانية حيادية ومستقلة”؛ ولأنه في حال حضورها ومشاركتها ستكون فعلياً أشبه بـ: “بشار الجعفري” الذي سيطالب برفع العقوبات الغربية “الظالمة عن السوريين”، ومنع توجيه المساعدات “للإرهابيين” في الشمال الغربي لسوريا.
باحث مساعد في وحدة التوافق والهوية المشتركة يحمل إجازة في الحقوق وحاصل على شهادة الماجستير في القانون العام، ناشط في المجتمع المدني والمجال الحقوقي وقدم عدداً من البرامج التدريبية