ضرورة بناء العقد الاجتماعي السوري… ولكن التخلص من الاستبداد أولاً
تطرح فكرة العقد الاجتماعي كأساس لبناء الدولة يبنى عليه الدستور الذي يحفظ حقوق الأفراد ومكونات الشعب، تتوافق نظرية العقد الاجتماعي مع الدستور في أنه كليهما يقوم على فكرة على التوافق طواعيةً بين أبناء الشعب على أسس بناء الدولة والقواعد المؤسسة للسلطة؛ وإن كان الدستور يعد صيغة قانونية رسمية كاشفة على عكس قواعد العقد الاجتماعي التي قد تكون مكتوبة، وغالباً ما تكون راسخة في الضمير الجمعي، وهي الأساس الذي تبنى عليه القواعد الدستورية.
إذاً؛ من المفترض أن يسبق العقد الاجتماعي الدستور كونه يعتبر الأساس المتفق عليه بين مكونات الشعب، والذي يظهر لاحقاً من خلال وثيقة الدستور التي تبين اتفاقهم وتوافقهم على القواعد الأساسية التي سيخضعون لها بإرادتهم، وبما يحقق العيش المشترك فيما بينهم.
ساهمت الأنظمة الديكتاتورية التي حكمت العالم العربي بقمعها وكبتها السياسي في تأخير أي تفاعل مجتمعي وسياسي ينبني هوياتياً على الإطار الجغرافي الوطني الذي فرض بإرادة خارجية، بل وساهمت هذه الأنظمة في الإيحاء بوجود هوية وطنية عبر إظهار ذلك بقشرة دستورية وشرعية خارجية، ليتبين ضعف هذه الهوية وانكشافها في ظل ما شهدته الثورات العربية التي دخلت معها هذه المجتمعات في حالة أقرب ما تكون إلى الصراع الهوياتي الناتج عن التغييب الفعلي للتفاعل السياسي والاجتماعي الذي مورس من قبل أنظمة التسلط والاستبداد، ليبقى التوافق الأولي بين مكونات المجتمع على القواعد المؤسسة للسلطة -إن صح التعبير- في مرحلة حضانة لم يتح لها التراكمية والنضوج اللازمة لرسوخ قواعد “العقد الاجتماعي”.
في الولايات المتحدة – كما العديد من الدول الأوروبية – نشأت الدولة نتيجة ظروف تاريخية واجتماعية واقتصادية جعلت هذا الاجتماع نابعاً من الجماعة التي صاغت عقدها الاجتماعي، لتتحول من مرحلة ما قبل الدولة الحديثة إلى ما بعدها، وهو ما افتقده العالم الثالث الذي وجد نفسه أمام دولة ومؤسسات مصممة بعيداً عن التفاعل الاجتماعي والتاريخي الذي عاشه. وإذا كانت بعض النخب ونتيجة وجودها وعيشها في الدول الغربية قد عاصرت أوج الدولة الحديثة ورأت ثمار العقد الاجتماعي الذي بنيت عليه هذه الدول، فإنه بالمقابل كانت غالبية فئات الشعب بعيدة عن هذا الشعور، مما جعل الدولة بالنسبة لها فكرةً مستوردةً من الخارج، أكثر منها ضرورةً لتنظيم حياتها، وهذا كان أحد الأسباب المهمة في النهاية لدساتير مكتوبة فاقدةً للأساس الاجتماعي، والذي نقصد به شعور غالبية شرائح الشعب بالحاجة للدولة ومؤسساتها وخضوع الأخيرة للقواعد التي يتوافقون عليها.
بهذا المعنى، وفيما تعد الحالة الأمريكية أقرب ما تكون إلى المثالية، فإن الحالة العربية عموماً تشكلُ نموذجاً واضحاً لمجتمعات العالم الثالث؛ التي لم تعرف الدولة فيها عقداً اجتماعياً متوافقاً عليه من قبل الشعب يسبق الدستور المعمول به في البلاد، بل إن فكرة العقد الاجتماعي كأساس تقوم عليه الدولة تكاد تكون منسيةً إلا في بعض الكتب الأكاديمية والأبحاث الغربية المترجمة.
وهذا ما جعل غالبية الدول العربية بما فيها سوريا، وإن وجدت فيها دساتير مكتوبة إلا أنها فاقدة للتوافق الاجتماعي “العقد الاجتماعي” الذي يمثل توافق الشعب على القواعد الحاكمة له. وبالتالي ونتيجة افتقاد هذه القاعدة لم تستطع هذه الدول بلورة هويتها الوطنية، فلا يمكن للدستور مهما كانت بنوده أن يساعد في التأسيس لعقد اجتماعي، حتى ولو كان له شرعية أمام المجتمع الدوليّ؛ إذا لم يكن مستنداً لعقد اجتماعي توافقي يجمع مكونات المجتمع نفسه.
تحتاج دولنا العربية قبل التفكير بتطوير دساتيرها، التركيز على بناء توافق اجتماعي بين مكونات الشعب، وهذا يتطلب توفر الشروط الثلاث التالية: الحرية، الاستقلال، حسن تمثيل الشعب من قبل نخبه. العائق الأكبر أمام تحقق هذه الشروط هو وجود “دولة القمع والاستبداد” التي سحقت أية بيئة مناسبة لبناء مثل هذا التوافق. وبالتالي طالما بقيت هذه الدولة جاثمة على صدور الشعب، فلا أمل بتحقيق أي توافق اجتماعي يمكن أن يساهم في تطوير دولنا ومجتمعاتنا.