حقوق الإنسان في السجون ودور التوقيف في القانون الدولي: جدوى البحث وأهمية المناصرة في الحالة السورية
إذا كان التركيز على منظومة حقوق الإنسان بوصفها منظومة كاملة وشاملة للإنسان وهو في حالته الطبيعية كإنسان حرّ طليق أحد القضايا شديدة الأولوية في كل زمان ومكان، فإن هذا التركيز يُفترض أن يتضاعف في الحالة التي تُقيّد فيها حرية هذا الإنسان كأن يكون موقوفاً أو مسجوناً، حيث يكون في بيئة معزولة عن الآخرين، ويصبح منقطعاً عن العالم الخارجي وأكثر عرضة لانتهاك كرامته الإنسانية وحقوقه الأساسية.
تُعدّ سوريا قبل الثورة وبعدها في مناطق سيطرة نظام الأسد المثال الصارخ على انتهاك حقوق المساجين والموقوفين تبعاً لتاريخ طويل وثقافة راسخة في سوء منظومة السجون الرسمية منها وغير الرسمية، والتي أشبه ما تكون بـ “مسالخ بشرية” وفق تعبير منظمات حقوقية دولية عديدة، وهو ما يجعلها خارج نطاق التركيز في هذا المقال.
أما في المرحلة الراهنة وفي حالات عديدة استهجن الرأي العام الثوري داخل وخارج سوريا أنباء انتشرت عن حالات يُمارس فيها التعذيب في السجون ودور التوقيف الرسمية في المناطق المحررة شمال غرب سوريا، ورغم إيجابية هذا التفاعل العام، وما يُشكّله من مناصرة لأحد حقوق الإنسان الأساسية، والإعلان من قبل الجهات المسؤولة عن التحقيق الرسمي في مثل هذه الحالات، إلا أنه تفاعل اقتصر على الانتهاكات الكبيرة والاستثنائية، في حين أن مناصرة حقوق الإنسان في بيئة شديدة التعقيد كبيئة السجون تتطلب عملاً حقوقياً ورقابياً وحوكميّاً مستداماً.
ما سبق ذكره يطرح تساؤلات عديدة من أهمها: ما هي ضمانات حقوق الإنسان في السجون ودور التوقيف وفق قواعد القانون الدولي؟ وما أهمية إعمال أكبر قدر منها في المناطق المحررة؟ وكيف يمكن للدراسات والأبحاث والمناصرة أن تُسهم في تحقيق ذلك؟.
بداية يمكن القول إن الضمانات القانونية الدولية الخاصة بحقوق المساجين والموقوفين لم تُولد بيسر وسهولة، بل تطوّرت تدريجياً لتلحظ المخاطر التي يتعرض لها السجناء، وذلك بعد أن حسمت جدليّة أساسيّة في الفقه الدولي عبر الانتقال من فلسفة العقاب إلى الإصلاح والتأهيل، واستقرت على عدم جواز التذرُّع بالظروف الاستثنائية أو حالات الطوارئ، للتهرُّب من واجب احترام وضمان الحق في المعاملة الإنسانية لكل الأشخاص الذين سُلبت حريتهم.
تبعاً لهذا التطور في القانون الدولي تشكَّل ما يمكن اعتباره بالإطار الشامل من خلال مجموعة قواعد قانونية عديدة وردت في متن اتفاقيات ومعاهدات، وهي خمس اتفاقيات رئيسية من أبرزها: العهدان الدوليان واتفاقية مناهضة التعذيب- بالإضافة إلى الإعلانات والمبادئ التوجيهية الخاصة بحالة حقوق الإنسان للأشخاص مسلوبي الحرية، تشمل تسعة صكوك رئيسية، أبرزها: قواعد الأمم المتحدة النموذجية الدنيا لمعاملة السجناء لعام 2015 (قواعد نيلسون مانديلا).
وبذلك برزت مجموعة من الضمانات لحقوق الإنسان في السجون ودور التوقيف تطال مجالات عديدة في بيئة السجون، كـتنظيم ملفات السجناء والفصل بين الفئات، ومجمل القيود والإجراءات والجزاءات التي تهدف للحفاظ على النظام العام في السجن وتحقيق حياة مجتمعية جيدة التنظيم، وضمانات المعيشة الملائمة من المكان والبنى التحتية والغذاء والإصحاح، وضمانات الرعاية الصحية والتواصل مع العالم الخارجي والتدريب والتأهيل والشكوى والرقابة الداخلية والخارجية ..الخ، مع مراعاة متغيّرات عديدة تبعاً للحالة القانونية أو خصوصية بعض الفئات، كالنساء والأطفال وذوي الإعاقة الذهنية.
بالانتقال إلى حالة حقوق السجناء والموقفين في شمال غرب سوريا، ثمة ثلاث فجوات رئيسية كبرى تعترض إعمال حقوق هذه الفئة، وهي: غياب الإطار القانوني الوطني الذي يدمج القواعد القانونية الدولية لضمانات حقوق الإنسان في السجون ودور التوقيف، والفجوات الهيكلية “المؤسّساتيّة” كعدم وجود آليات وطنية للرقابة على حقوق الإنسان عموماً وفي السجون ودور التوقيف بشكل خاص، وهو ما ينعكس على مستوى التطبيق والذي يرتبط بدوره أيضاً بفجوات أخرى كمستوى الوعي والثقافة العامة للمجتمع والسجناء وكوادر السجون ومستوى تأهيلهم وتدريبهم، وضعف الدور الذي تلعبه منظمات المجتمع المدني أيضاً، والتي يمكن لها أن تُسهم كما هو الحال في تجارب مقارنة بأدوار جوهرية، كبرامج التأهيل وإعادة الإدماج وصولاً للرقابة والضغط والمناصرة.
ثمة أسباب عديدة ساهمت في إبراز أهمية حقوق السجناء والموقوفين في الحالة السورية عموماً وحالة شمال غرب سوريا خصوصاً، من أبرزها: أن إعمال حقوق الإنسان بمختلف جوانبها يُعدّ التزاماً بأهداف الثورة السورية ومبادئها، وهو الكفيل ببناء الثقة بين المؤسسات والحاضنة الشعبية، وترسيخ ثقافة حقوقية مجتمعية حول هذه البيئة المعزولة عن الأذهان ورفع مستوى الاهتمام العام بها، بما في ذلك الشرائح الأكثر قرباً لهذه القضية كالحقوقيين وكوادر العدالة والصحفيين. إلى جانب ممارسة الضغط المستمر عبر حشد المجتمع والمناصرين والمدافعين عن حقوق الإنسان لسد الفجوات الرئيسية وتحسين الممارسات، وكذلك كسر حالة الضبابية في ظروف الحياة اليومية في السجون ودور التوقيف وجعلها في موضع اهتمام الرأي العام، فضلاً عن الدفع نحو التركيز على انتقاء الكوادر وتأهيلهم قبل وأثناء إدارة هذه المرافق الحساسة بكفاءة عالية منسجمة مع القواعد النظرية، وإيجاد السبل والآليات الكفيلة والمناسبة لتحقيق رقابة فعّالة ومستقلة وطنية ودولية.
كما تتلاقى الأسباب سابقة الذكر والقواعد الدولية الحديثة مع الثقافة العامة التي تستند إلى الشريعة الإسلامية الغراء ومقاصدها والتي لا تنظر للعقوبة كغاية في حد ذاتها بل كوسيلة لإصلاح الجاني وتأهيله لأخذ دوره في المجتمع دون أن يكون هنالك تعسُّف من النظام العام في استخدام حقه عبر حجز الجاني والتقييد المؤقت لحريته، وهو تطور عبر الجهود الفكرية المختلفة ليصبح فقهاً خاصاً بالسجون بما يقبل التطور المستمر ومراعاة الواقع واحتياجاته لتحقيق الغايات الكبرى.
ختاماً، وعلى الرغم من أن تحديات عديدة ستكون موجودة بكل تأكيد في حالة إعمال الضمانات الدولية ذات الصلة في البيئات الهشة كالتحديات الأمنية واللوجستية، فإن الوقوف على الإطار القانوني الدولي بنظرة فاحصة وخبيرة وسبر التجارب المختلفة يمكن له أن يكشف عن وجود الكثير من الضمانات التي ترتبط بالإرادة؛ بمعنى آخر بوجود نوايا حسنة تجاه احترام الكرامة الإنسانية وتقديم يد العون للسجناء وعدم التمييز بينهم، وهذه الإرادة لا توجد فجأة بل تحتاج لنشر الوعي من جانب، وللمناصرة المستمرة والضغط بشتى الوسائل والأساليب من جانب آخر.
باحث مساعد في وحدة التوافق والهوية المشتركة يحمل إجازة في الحقوق وحاصل على شهادة الماجستير في القانون العام، ناشط في المجتمع المدني والمجال الحقوقي وقدم عدداً من البرامج التدريبية