أقلام المنتدى

“إسرائيل” وحرب الرّوايات.. نحو تغييب الرّواية العربية

في العام 2001، تعرّض برجا التجارة العالميّان في نيويورك لهجمات تاريخية غيّرت وجه العالم، ولا تزال تداعياتها حتى اليوم مستمرة، وحينها ظهر الرئيس الأمريكي الأسبق “جورج بوش” الابن مطلقاً تهديداته بالانتقام من الإرهاب، في إشارة إلى تنظيم القاعدة وما يسمى “محور الشر”، وأطلق كذلك جملته الشهيرة “من لم يكن معنا فهو ضدّنا”.

في ذاك الحين عطّلت الولايات المتحدة عمل مجلس الأمن والدبلوماسية العالمية، وقررت شنّ غزو لأفغانستان ضد القاعدة، وأصبحت سياستها تطبيقاً حرفياً لمقولة بوش السابقة، وأصبح تصنيف واشنطن لدول العالم قائماً على هذا المبدأ، إما أن تبرّروا حربنا ضد الإرهاب، أو فأنتم شركاء فيه.

بعد عامين عطلت الولايات المتحدة مجلس الأمن مجدداً، وشنّت مع بريطانيا غزواً للعراق عام 2003 للإطاحة بنظام صدام حسين، وأعاد بوش حينها تطبيق نفس السياسة القائمة على وجوب تأييد الغزو “لتخليص العالم من أسلحة الدمار الشامل في العراق”، ومن لم يفعل ذلك فهو شريك لنظام صدّام.

لا يبدو في الواقع أي فرق بين سياسة الولايات المتحدة بالأمس وسياسة “إسرائيل” اليوم، حيث تريد تل أبيب من دول العالم وسياسييها وقادتها سوق التبريرات لحربها الطاحنة ضد المدنيين في غزة، وسياسة الإبادة الجماعية التي تنتهجها منذ 7 أكتوبر تشرين الأول، بذريعة القضاء على حركة حماس.

ورغم أن المجتمع الدولي بغالبيته – أو على الأقل بدوله العظمى- وقف إلى جانب الرواية الإسرائيلية، وأكد “حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها”، وتعامى عن كمية الجرائم ضد الإنسانية التي ترتكبها في قطاع غزة، إلا أن ذلك لم يُشبع رغبة قادة “إسرائيل”، الذين باتوا يصنّفون أي موقف أو تصريح صادر من أي دولة في العالم، على أساس الموقف من حربها في غزة، ويجب أن يكون التصريح في اتجاه واحد يقول لها: “معك كل الحق في كل ما تفعلين”.

في جلسة مجلس الأمن التي انعقدت يوم الإثنين 24 أكتوبر تشرين الأول، حول الأوضاع في الشرق الأوسط، وخصوصاً في غزة، يبدو أن الأمين العام للأمم المتحدة خرج عن دائرة الرضا الإسرائيلية، بل ووقع في دائرة الغضب والحنق، حين أدان ما سماها “سياسة العقاب الجماعي” لـ “إسرائيل” في غزة، وقال إن ما فعلته الفصائل الفلسطينية “لم يأتِ عن عبث”، إنما هو نتاج “56 عاماً من الاحتلال”، وأضاف أن الفلسطينيين “رأوا أرضهم تلتهمها المستوطنات ويعمّها العنف، واقتصادهم يُخنق، وشعبهم يُشرّد، ومنازلهم تُهدّم، وآمالهم في حل سياسي لمعاناتهم تتلاشى”.

اللافت أن غوتيريش لم يقتصر بكلامه على مهاجمة السياسة الإسرائيلية في حرب غزة، إنما بدأ كلامه بإدانة هجوم حماس، ووصفه بأنه “إرهابي ومروّع وغير مسبوق”، ورغم حديثه عن معاناة الفلسطينيين مع الاحتلال أكد أن كل ذلك “لا يبرر تعمّد قتل وإصابة واختطاف المدنيين أو إطلاق الصواريخ على أهداف مدنية”، وشدّد على “ضرورة معاملة جميع الرهائن بشكل إنساني وإطلاق سراحهم فوراً بدون شروط”.

هذه التصريحات أثارت غضباً عارماً لدى المسؤولين الدبلوماسيين الإسرائيليين، وتحوّلوا بعد سماعه من “دبلوماسيين” إلى صقور حرب ودُعاة دمار، وشنّوا هجوماً غير مسبوق على الأمين العام للأمم المتحدة، وأكد وزير الخارجية الإسرائيلي أنه “لن يلتق غوتيريش” اعتراضاً على تصريحاته، وقال: “ليس هناك أي فائدة من الحديث مع شخص يُظهر تفهّماً لأفظع الأعمال المرتكبة ضد مواطني إسرائيل”، وقال عضو “مجلس الحرب” الإسرائيلي بيني غانتس: “الأيام التي يدعم فيها الأمين العام للأمم المتحدة الإرهاب هي أيام مظلمة بالنسبة للعالم، ومن يبرر الإرهاب لا يستحق أن يتحدث باسم العالم”، كما شارك رئيس المعارضة الإسرائيلية يائير لابيد، في هذه الهجمات ضد غوتيريش، وقال في تغريدة على موقع إكس: “لقد جلب غوتيريش العار للأمم المتحدة اليوم. لقد قدّم خطابه مبررات وتبريرات للإرهاب الهمجي”.

أصبح رئيس الدبلوماسية الدولية فجأة “داعماً للإرهاب”، وشخصاً “يجلب العار” للأمم المتحدة، وقد تؤدي تصريحاته إلى إنهاء فعلي لمسيرته على رأس المنظومة الأممية، كل ذلك ليس لأنه دعم هجوم حماس، وليس لأنه اتهم “إسرائيل” بالإبادة الجماعية، إنما فقط لأنه تحدث “قليلاً” بتصريحات تُنصف الضحايا، وتجد تفسيراً تاريخياً سهلاً لما يحصل اليوم، وهذا ما أشعل غضب المسؤولين الإسرائيليين، الذين يريدون من الجميع كلاماً واحداً فقط: “أنتم على حق”، دون أي اعتراضٍ أو أصغر إدانة. هذا بالضبط هو الشرح الإسرائيلي الخاص لتصريحات جورج بوش الشهيرة، حيث تقول تل أبيب للعالم اليوم: “من لا يبارك الإبادة الجماعية التي نقوم بها.. فهو داعم للإرهاب، وهو ضدّنا”.

مقالات الكاتب

مساعد باحث في مركز الحوار السوري، يحمل إجازة في الأدب العربي من جامعة الفرات السورية، عمل كاتباً وصحفياً ومدققاً لغوياً لعدة سنوات في العديد من المواقع والقنوات الإخبارية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى