غوبلز وموجات العنصريّة.. كيف تنتشر الأكاذيب ضدّ السوريين في تركيا كالنار في الهشيم؟
ضجّت وسائل التواصل الاجتماعي التركية في الأيام الماضية بخبر يُثير السخرية جاء فيه أن “بشار الأسد يَعِد اللاجئين السوريين العائدين إليه من تركيا بمنحهم 1000 دولار وبيتًا ودكانًا[1]“! إلا أن هذا الخبر الذي لا يقبله العقل والمنطق لاقى رواجًا كبيرًا بين العديد من المغرّدين الأتراك الذين احتفوا بالخبر، راجين أن يكون سببًا لبداية عودة اللاجئين.
لم تكن هذه الكذبة الأولى من هذا النوع في تركيا، إذ سبق أن انتشر في تويتر بتركيا قبل سنتين خبرٌ مفاده أن بشار الأسد يَعِد اللاجئين العائدين إليه بمنحهم 50 ألف دولار وبيتًا وسيارة[2]. هذه الأخبار المكذوبة هي جزء من سلسلة أكاذيب وتحريضات كبيرة تقودها حسابات إخبارية وصحفية في وسائل التواصل الاجتماعي في تركيا ازدهرت في الآونة الأخيرة.
سيتناول هذا المقال مسألة هذه الأكاذيب المنتشرة في التواصل الاجتماعي في تركيا ضد السوريين، وبالأخص في منصّة إكس (تويتر سابقًا)؛ بحكم انتشارها الواسع وتأثير جمهورها على الساحة السياسية التركية. وسيشرح طبيعة عملها وأهدافها والأضرار المتوقّعة الناتجة عن انتشارها.
حسابات إخبارية تحريضية
شهدت منصة تويتر في تركيا منذ عام 2019 ظهور عدد من الحسابات الإخبارية التي يُديرها صحفيون شباب هواة معظمهم غير معروف، أو لا يُصرّح بهويته من الأساس، وامتازت بتقديمها الأخبار على شكل تغريدات قصيرة وبصيغة مثيرة للجدل؛ ما تسبّب بزيادة عدد متابعي هذه الحسابات بشكل كبير خلال مدة قصيرة، لتصل الأعداد إلى مئات الآلاف من المتابعين لكل حساب على حدة. كما أسهمت مشاركات شخصيات شهيرة من صحفيين وفنانين وغيرهم لأخبار هذه الحسابات بزيادة أعداد متابعيها بشكل كبير.
وزاد عدد هذه الحسابات مرة أخرى بشكل ملحوظ في 2022، وكانت معظم الحسابات الإخبارية المفتوحة في هذه المدّة تدعم حزب الظّفر المعادي للاجئين؛ ما قد يشير إلى احتمال وجود تعاون بين الحزب والقائمين على هذه الحسابات.
لا يملك معظم القائمين على هذه الحسابات أيّ التزام بمبادئ وأخلاقيات مهنة الصحافة بحسب الملاحظ، إذ لا يتورّعون عن التشهير بالأشخاص واستهدافهم بشكل فجّ[3]، أو نشر الأخبار دون مصادرها[4]، وحتى نشر الأكاذيب والتحريضات بشكل واضح وصريح[5]. وتشكّل الكثير من منشورات هذه الحسابات انتهاكًا صارخًا للقوانين بشكل يُفترض أن يقود بمرتكبها للمحاسبة القانونية، إلا أن هذه المحاسبة ما زالت ضئيلة ومحدودة جدًّا إلى الآن رغم دخول قانون مكافحة التضليل الإعلامي في تركيا حيّز التنفيذ[6].
بعد المتابعة الدقيقة لهذه الحسابات، يمكن القول إن القائمين عليها يعملون على نسخ الأخبار من بعضهم البعض ونشرها بالصيغة نفسها تمامًا، حتى إن المتابع لهذه الحسابات يمكن أن يقرأ الخبر نفسه عشرات المرات خلال دقائق بسبب نشرها الخبر بالصيغة نفسها. قد يكون القائمون على هذه الحسابات يتعاونون فيما بينهم لإغراق تويتر التركي بالخبر نفسه بالوقت نفسه، وقد يكون الأمر مجرّد سرقة بين حسابات تسعى لكسب المزيد من المتابعين دون بذل جهد. لكن في الحالتين النتيجة لا تختلف، إذ تنتشر أخبارهم كالنار في الهشيم في غضون دقائق، وتصعد في كثير من الأحيان إلى المراتب الأولى في “الترند” في تركيا.
تتنوّع الأخبار التي تنشرها هذه الحسابات، إذ تنشر -أحيانًا- مقاطع مثيرة للجدل داخل المجتمع التركي تتعلّق بالخلاف المزمن بين العلمانيين والمحافظين[7]، أو قد تنشر أخبارًا مثيرة للجدل تتعلق بالسياسة التركية[8]، لكن الأمر الأخطر من هذا هو نشرها أخبارًا عن السياسيين اليمينيين المتطرفين حول العالم مكتوبة بصيغة إيجابية، وكذلك نشرها أخبارًا تحريضية ضد اللاجئين السوريين يكون غالبها ملفقًا وغير صحيح.
بالنظر إلى اهتمام هذه الحسابات بالسياسيين ذوي التوجهات الفاشية، نجد بعد المتابعة الدقيقة أنها نشرت أخبارًا إيجابية تتعلق بالرئيس التونسي قيس سعيّد -مثلًا- عندما أطلق تصريحات ضد اللاجئين الأفارقة[9]، كما تنشر باستمرار أخبارًا إيجابية عن السياسي الهولندي العنصري خيرت فيلدرز[10]، أو رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني[11]، أو حتى مدحها الجنرال الانقلابي الليبي خليفة حفتر بعد اعتقاله مجموعة من اللاجئين في شرق ليبيا[12].
تسبّب هذا النشر المكثّف لأخبار الساسة ذوي التوجهات الفاشية في تويتر التركي بنشوء صورة إيجابية عن هذه التوجّهات بين شريحة واسعة من المغرّدين الأتراك، معظمهم من فئة الشباب والمراهقين، ويمكن ملاحظة هذا الانتشار الواسع بالنظر إلى التعليقات على أي تغريدة متعلّقة بهؤلاء الساسة، وبالنظر إلى هوية المعلّقين.
وعودة إلى قضية اللاجئين السوريين، تهتمّ هذه الحسابات بنشر أي مقطع أو خبر يثير الشارع التركي ضد اللاجئين السوريين، مثل نشرها لمقاطع الشجارات التي يكون السوريون طرفًا فيها[13]، أو المقابلات التي تتم مع سوريين ويصرّحون فيها بأشياء تثير المجتمع التركي[14]، أو حتى ببثّ الذعر في المجتمع بعدة أشكال، إما بنشر مقاطع تظهر عبور المهاجرين غير الشرعيين من الحدود[15]، أو التي تظهر تسلّح السوريين[16]، وحتى نشر مقاطع للمرضى السوريين للتخويف منهم من خطر نشرهم العدوى[17]!.
لا يقف الأمر عند هذا الحد، إذ تنشر هذه الحسابات باستمرار أخبارًا كاذبة وملفّقة عن السوريين وحتى في قضايا أخرى، دون أن يوقفها شيء. إذ نشرت عدة مرات مقاطع لأشخاص ادّعوا أنهم سوريون وتحدثوا بأمور أثارت الشعب التركي[18]، وتبيّن فيما بعد أنهم مواطنون أتراك. كما ينشرون العديد من الأخبار المضحكة غير المنطقية عن الوضع في سوريا، كالتصريح المنسوب لبشار الأسد الذي ذُكر في مقدمة المقال[19].
لا يمكن نفي وجود تدخّل حكومي لمحاولة إيقاف هذه الحسابات، إذ جرى القبض على عدد من القائمين على هذه الحسابات في مناسبات معيّنة مثل ليلة الانتخابات الأخيرة[20]، وتنشر إدارة الإعلام في رئاسة الجمهورية نفيًا لأي خبر كاذب ينتشر في التواصل الاجتماعي[21]، إلا أنّ هذه التدخّلات دائمًا ما كانت محدودة وضعيفة، ولا تؤدّي إلى إيقاف هذه الحسابات عن نشر الأكاذيب والأخبار التحريضية.
اكذب اكذب حتى يصدّقك الناس
يُنسَب لوزير الدعاية النازي جوزيف غوبلز قوله: “اكذب اكذب حتى يصدقك الناس”، ويبدو أن السياسيين والصحفيين الأتراك المعادين للاجئين يعتمدون على هذا المبدأ بشكل كبير في تعاملهم مع قضية اللاجئين السوريين وطبيعة عرضهم لها للجمهور التركي، إذ لا يتورّع هؤلاء عن نشر الأخبار الكاذبة، إما بسبب عدم تحقّقهم من مصدرها، أو عن سبق إصرار وترصّد؛ بهدف تحريض المجتمع التركي ضد اللاجئين.
ولا يبدو أن السوريين فقط هم الفئة المستهدفة في الأخبار المكذوبة التي تنشرها هذه الحسابات، بل المستهدف أيضًا هو الجمهور التركي البسيط، وبالأخص من فئة الشباب والمراهقين الذين لا يملكون الاطّلاع الكافي على السياسة الإقليمية والعالمية، ويحصرون أنفسهم في دائرة ضيقة جدًا؛ وذلك بهدف ترسيخ هذه الأفكار السلبية عن السوريين في أذهانهم بشكل لا يمكن إصلاحه فيما بعد بأي شكل من أشكال النفي والتبيين.
ويمكن باطّلاع بسيط معرفة الصورة النمطية المكوّنة في عقول هذه الفئة من المغرّدين عن اللاجئ السوري، فهو: “شاب جبان هارب من الحرب بائع لوطنه متطفّل على مجتمع غريب لا يمتّ له بأي صلة لا ثقافيًا ولا دينيًا، وينجب الأطفال دون توقّف، ويستفيد من جميع خدمات الدولة المموّلة من ضرائب الشعب، وتُعطى له الأولوية في كل شيء، وفوق هذا يتوزّعون بشكل عصابات في الحدائق والمنتزهات لمضايقة المواطنين الأتراك وإفساد نمط حياتهم، ورغم أن دولته (نظام الأسد) تعده بمنحه آلاف الدولارات ومنازل ودكاكين إلا أنه يفضّل البقاء في تركيا لأنها أفضل له، إذ يحصل على كل تلك الميزات دون أن يعمل أي شيء…” وغير ذلك من الاتهامات المنتشرة بكثرة في وسائل التواصل الاجتماعي، والمترسّخة خصوصًا بين الشباب والمراهقين.
قد لا تكون هذه الفئة قادرة اليوم على إحداث تغيير واضح في تركيا مجتمعيًا وسياسيًا، إما بسبب انخفاض أعمارهم أو عدم تنظيمهم، لكن هذه الفئة التي تحمل كلّ هذه الترسّبات العنصريّة والمنغلقة على ذاتها قد تُحدث أثرًا كبيرًا في الأعوام القليلة المقبلة، وقد تبلغ ذروتها مع انتخابات عام 2028.
وماذا بعد؟
تواجه تركيا اليوم خطرًا محدقًا من الأحزاب العنصريّة، إذ بدأ تصاعدها يتسبّب بموجة من الاعتداءات على الأجانب والسياح من مختلف الجنسيات؛ الأمر الذي بدأ يُلقي بظلاله على قطاعات مهمّة في الاقتصاد التركي. ومع تزايد تأثير هذه الحسابات الإخبارية -المعروفة أو الوهميّة- يتعاظم خطر نشوء جيل جديد متشرّب لهذه الأفكار العنصريّة، والذي لن يتوقف ضرره عند اللاجئين السوريين وحسب، بل سيتجاوز ذلك ليصل للأكراد والمتديّنين وكبار السن وفئات أخرى داخل المجتمع التركي نفسه.
من الملاحظ أن ردّة الفعل الحكومية تُجاه هذه الحسابات والقائمين عليها ضعيفة جدًا وغير نافعة؛ إذ تكتفي السلطات -في الغالب- بنشر نفي لأيّ خبر كاذب يصدر عن هذه الحسابات، ويجري القبض على بعض القائمين على هذه الحسابات في مناسبات نادرة جدًا. لذا يُفترض بالسلطات التركية أن تكون أكثر حزمًا في مواجهة هذا الخطر المحدق، وذلك بمحاسبة هؤلاء المحرّضين وإيقافهم عند حدّهم، ولن يكون هذا الأمر صعبًا؛ نظرًا لارتكاب هؤلاء العديد من الانتهاكات التي تستحق المحاسبة قضائيًا.
بكالوريوس في قسم الفلك وعلوم الفضاء من جامعة أنقرة، مهتم بالشأن التركي وعلاقته بقضايا اللاجئين السوريين وقضايا السورية، ونشر وشارك في إعداد عدد من التقارير والمقالات حول هذا الموضوع ضمن الوحدة المجتمعية في مركز الحوار السوري