انتخبوا جدي بدل غوتيريش!
“انتخبوا جدي حسين بدل غوتيريش!”.. عبارة انتشرتْ بكثرة مؤخراً في مواقع التواصل الاجتماعي بعدما حملها طفلٌ صغير يرتدي الزي العشائري، وقال فيها أيضاً إن عشائر دير الزور أرسلت 76 شاحنة مساعدات إلى شمال غرب البلاد، بينما أوفدت الأمم المتحدة 15 شاحنة فقط، ولذلك فإنه يدعو إلى انتخاب جدّه حسين أمينا عاماً لمنظمة الأمم المتحدة بدل أنطونيو غوتيريش، في رسالة واضحة من قبل أهالي دير الزور وشرق الفرات والسوريين عموماً إلى مستوى الخذلان الذي وصلت إليه الأمم المتحدة، وما تسبّبت به من زيادة مستوى الكارثة بسوريا بسبب تجاهلها إنقاذ الضحايا أو تقديم المساعدات لهم في وقت كانوا هم بأمسّ الحاجة إليها عندما كان ذووهم تحت أنقاض المباني المدمّرة.
أكثرُ من أسبوعٍ مرّ على كارثة الزلزال وكانت الأمم المتحدة -حسب ما أعلنت حينها- تنتظر موافقة نظام الأسد للسماح بفتح معبري باب السلامة والراعي أمام دخول المساعدات، في وقتٍ كانت تدخل فيه قوافل مساعدات من جهاتٍ أخرى مثل السعودية وكردستان العراق وغيرها من الجهات إلى الشمال السوري، ما يُشير إلى إمكانية دخول المساعدات بالفعل دون الحاجة لانتظار موافقة نظام الأسد بحجة عدم خرق مبدأ “السيادة” الذي عادة ما تتذرع به الأمم المتحدة لتبرير عجزها عن تقديم المساعدات، في حين أن غوتيريش حاول تلميع نظام الأسد وإبراز أنه ساهم في دور إنساني بعدما وافق على فتح المعبرين، علماً أنهما لا يقعان تحت سلطة نظام الأسد أساساً.
يقول مدير منظمة الدفاع المدني السوري رائد الصالح، إن “فشل الأمم المتحدة في الاستجابة بسرعة لهذه الكارثة أمر مخز. عندما سألتُ الأمم المتحدة عن سبب فشل المساعدة في الوصول في الوقت المناسب، كان الجواب الذي تلقيته: إنها البيروقراطية.. وفي مواجهة واحدة من أكبر الكوارث الطبيعية التي ضربت العالم منذ سنوات، يبدو أن أيدي الأمم المتحدة كانت مكبّلة بالروتين!”.
في واقع الحال فإن الخذلان الأممي للسوريين ليس جديداً، فهي على مدى نحو 11 عاماً مضت خلّدت أسوأ حقبة في تاريخها بعد متابعة المحرقة السورية دون حراك جاد لوقفها، ويعرف السوريون جيداً مستوى الخذلان في الكثير من المحطات، سواء أهالي الغوطة الذين خنقهم النظام بالكيماوي أو أهالي حلب الذين لم يترك النظام والروس سلاحاً إلا وأسقطه فوق رؤوسهم أو أهالي حمص ودرعا ودير الزور والقائمة تطول من المدن والبلدات والقرى التي سُحِقتْ وهُجِّر أهلها دون أن تُحرّك الأمم المتحدة ساكناً أو حتى تُنهي عضوية نظام الأسد لديها، بل إن التقارير تتحدّثُ عن دعم غير معلن قدّمته منظمات الأمم المتحدة لنظام الأسد عبر بوابة المساعدات طوال السنوات الماضية.
وبعيداً عن بيروقراطيات الأمم المتحدة وذرائعها حول عدم الاستجابة؛ كان السوريون في مناطق متفرّقة يسجلون أروع صور التكافل الاجتماعي، رغم أوضاعهم المادية التي تتّسم بأنها عادية، بل إن بعضهم يبدو بحاجة للتبرّعات والمساعدات، إلا أن ذلك لم يكن عائقاً أمام تبرعه لإخوانه المتضررين في الشمال السوري.
سجّلتْ مناطقُ سورية عدة حالات تكافل اجتماعي، بدأ ذلك في مناطق الزلزال بإدلب وأرياف حلب خاصة في بلدة جنديرس التي جُمِعت لها تبرعات كثيرة وهبّ شبانٌ كثرٌ من مدن أخرى في الشمال السوري لنصرتها إما بالمال أو بالجهد، وذلك بعدما فاق حجم الكارثة فيها إمكانات الدفاع المدني والجيش الوطني السوري، خصوصاً أن البلدة كانت بحاجة ماسة للآليات الثقيلة نظراً لحجم الدمار الكبير، ولذلك فإن أكثر ما سعى له السوريون في البلدة هو تأمين الوقود لأصحاب الآليات من أجل مواصلة الليل بالنهار وإنقاذ ما يمكن إنقاذه من العالقين تحت الأنقاض، وقد تكرّر نفس الأمر تقريباً في بلدات وقرى أخرى ضربها الزلزال، فكان السوريون كخلية نحل. مجموعاتٌ تُؤمّن الآليات وأخرى تعمل وأخرى تدفع الأموال، ومجموعات أخرى عملت على المساعدة في إيواء المتضررين بمراكز الإيواء والخيام.
وفي هذا الصدد، قال رائد الصالح: “أثناء بحثنا بين أنقاض آلاف المباني، كانت المجتمعات المحلية المتضررة هي وحدها من ساعدنا، سواء عن طريق إقراضنا سياراتهم ومركباتهم الثقيلة للاستجابة، أو المساعدة في الحفر، والتبرع بالوقود الذي كان بحوزتهم لتأمين حد أدنى من التدفئة لأنفسهم”.
كلُّ ذلك جرى وفق ظروف يعلم الجميع صعوبتَها في منطقة الشمال السوري، فهي بالأصل منطقةٌ تُعاني من فقر وعوز الملايين بسبب الحرب التي شنّها نظام الأسد وحلفاؤه منذ أكثر من عقد من الزمن، وسط محاولات مستمرة لإفقارها وتدمير بنيتها التحتية، خصوصاً على المستوى الطبي وسعي النظام وروسيا بشكل ممنهج إلى تدمير المشافي والمرافق الطبية طوال السنوات الماضية، إلا أنَّ كل ذلك لم يمنع السوريين من أن يكونوا يداً واحدة في مواجهة الزلزال العنيف الذي ألمّ بهم وجعلهم يقتربون أكثر من بعضهم عبر حالات تكافل اجتماعي كثيرة لن نستطيع بطبيعة الحال أن نحصيها في هذه السطور.
ولم يقف الأمر بحالات التكافل على مستوى المناطق المتضررة في شمال غربي سوريا، بل إن مناطق الشمال الشرقي لعبت دوراً لن يُنسى في نصرة المنكوبين من الزلزال، وتابع السوريون بحفاوةٍ كبيرةٍ قافلة المساعدات الضخمة التي وصلت من عشائر دير الزور إلى منطقة شمال غربي سوريا سالكة طريقاً طويلاً للوصول إلى مبتغاها، ومُسطّرةً واحدة من أروع حالات التكاتف الاجتماعي في الثورة السورية، خصوصاً أن البعض باع كل ما يملك من أجل المشاركة بالمساعدة، كما إن بعض الأهالي قدموا ما يُعرف بـ “النضيدة”، أي (اللحاف والفراش) الذي تتباهى به العرائس في ليلة الزفاف، ويُعدُّ من تراث المنطقة ومن أفضل أنواع الأغطية، كما إنه يبقى محتفظاً به ولا يُقدَّم سوى للضيف الذي له مكانة كبيرة وفي مناسبات مهمة، ولذلك فإن الكثير من عوائل دير الزور تبرعت بهذه “النضيدة” التي لديها للتعبير عن التضامن الكبير مع أهالي الشمال السوري وأن ما يصلهم من مساعدات هو من أفضل ما يملكون وليس ما هو زائد عن حاجياتهم، ونفس الأمر أيضاً كان منطبقاً على عشائر منبج والرقة والحسكة التي قدّمت هي الأخرى ما استطاعت من مساعدات إلى المنكوبين في الشمال السوري، هذا فضلاً عن أن بعض القوافل كانت تحمل مساعدات مالية نقدية وليس طعاماً وشراباً ولباساً وأغطية ومخيمات.
جاء كلُّ ذلك في وقتٍ كانت فيه الأمم المتحدة تمارس أدوارها الاعتيادية في التعبير عن القلق وإبراز توقّعاتها بارتفاع عدد ضحايا الزلزال في تركيا وسوريا، ودعوات إلى الدول بجمع مبالغ مالية “من أجل دعم المتضررين” في سوريا، وسط توقعات وترجيحات بأن الحصة الأكبر من الدعم الذي ستتلقاه الأمم المتحدة فيما بعد سيذهب من جهة كأجور لموظفيها في أفخم الفنادق وبأعلى الرواتب وغير ذلك من أجور اللوجستيات والسفر، ومن جهة ثانية سيذهب لخزينة نظام الأسد ولن يحصل السوريون في مناطق سيطرته إلا على القليل في ظلِّ نظامٍ يستثمرُ بأشد أزماتهم صعوبة ويحاول كسب أوراق سياسية واقتصادية بهذه الكارثة، في حين ستكون منطقة شمال غربي سوريا كما جرت العادة أقل المناطق تحصيلاً للدعم والاهتمام من قبل الأمم المتحدة، وهذا ما يُفسّر لافتة الطفل السوري الذي دعا لانتخاب جده بدل غوتيريش، فالسوريون فقدوا منذ سنوات طويلة الثقة بالأمم المتحدة، وبات أبسط أطفالهم يعرفون أنها مجردُ كيانٍ عاجز أو يتعاجز عن تقديم أبسط ما يلزم في وقت النكبات، بينما على الطرف الآخر كان المحتاجون السوريون يدعمون بإمكانياتهم مَن هم أكثر منهم حاجة.