الخطاب الإعلامي والشرعي لـ “تنظيم الدولة” .. أسئلة الجاذبية والتأثير
كان الخطاب الإعلامي والاديولوجي لتنظيم داعش في ذروة انتشاره وسيطرته سلاحاً فعالاً وهاماً في يد التنظيم، وشكل أداة جذب واستقطاب حشدت له آلاف المقاتلين والأتباع في فترة وجيزة من مختلف الجنسيات والأعمار، بشكل لا نظير له في تاريخ الجماعات الراديكالية و”الجهادية”، الأمر الذي دفع العديد من الباحثين والمهتمين لدراسة هذا الخطاب والتنقيب فيه والبحث عن أسباب جاذبيته ورواجه وقدرته على النفوذ والتأثير، سواء من جهة الخطاب في ذاته أو من جهة صفات المحَل المستهدف وسمات البيئة التي تحيط به، وأعني هنا شرائح المتعرضين لهذا الخطاب والمتأثرين به وسمات الواقع السياسي والاجتماعي والديني المنتمين له.
واليوم وبعد فقدان التنظيم لمناطق سيطرته ونفوذه وتراجع دوره السياسي والعسكري، وخفوت صوته الأيديولوجي والإعلامي، جراء الضربات التي تعرض لها والتي أدت إلى مقتل معظم قيادات الصف الأول من مختلف الدوائر الشرعية والعسكرية، يبرز مجدداً الحديث عن دور الخطاب الإعلامي الحالي للتنظيم في الترويج لسرديته ورؤيته الأيديولوجية المتطرفة وفي فعاليته وقدرته على حشد الأنصار والأتباع، مع الأخذ بعين الاعتبار التغيرات السياسية والاجتماعية على صعيد الساحات الإقليمية والدولية، ومع استحضار واقع الشباب العربي في بلدان الربيع العربي والهزائم والانكسارات التي تعرض لها.
على صعيد الخطاب الإعلامي والفكري الحالي للتنظيم فإنه لا فرق كبير يذكر من ناحية المضمامين الأيديولوجية والتوجهات الكلية، فالتنظيم ما يزال يرى في نفسه أنه صاحب الشرعية الدينية الحقيقية والوحيدة في مقابل إسقاط الشرعية الدينية لجميع مخالفيه من الحركات والجماعات الإسلامية المختلفة، وما يزال كذلك يتباكى على مظلوميته وبراءته، ويتحسر على “التشويه المتعمد وغير النزيه” الذي يتعرض له، ويبشر أتباعه وأنصاره بالفردوس الأرضي والنصر على الرغم من انحساره إلى جيوب صغيرة متفرقة في بوادي العراق وسوريا، كما يبشر بعودته وقدرته على النهوض في بقاع أخرى من العالم مثل إفريقيا وأفغانستان، ولم تكن كل الهزائم التي تعرض لها التنظيم ومقتل أغلب قياداته من الصف الأول كفيلة بتوجيه التنظيم إلى دائرة المراجعات الفكرية والاستراتيجية لأفكاره وسلوكياته، بل على العكس من ذلك، لم يتراجع التنظيم أو يعتذر عن أي من تصرفاته السابقة، محملاً كل هزائمه وانكساراته على ضراوة الحرب الصليبية العالمية ضده وعلى خيانة الشعوب العربية والإسلامية له، فضلاً عن أدبيات الابتلاء وانتصار “أهل الأخدود” التي يشحن بها أتباعه مراراً.
من جهة أخرى، فإن الظروف الموضوعية والسياقات السياسية والاجتماعية والدينية التي ساهمت في ظهور نجم التنظيم سابقاً ما يزال قدر كبير منها حاضراً في وقتنا الحالي، فالدول العربية ما زالت تتخبط في فشلها وعجزها عن تحقيق أدنى متطلبات الشعوب والكرامة للإنسان العربي في ظل سياسات القمع والسحق، إضافة إلى ذلك ما يزال الاحتقان الطائفي حاضراً بقوة في العراق وسوريا واليمن، وما تزال أنظمة الثورات المضادة مستمرة في توجهاتها الرامية إلى وأد أحلام الربيع العريي التحررية والمناهضة للتبعية، وتثبيت الأنظمة السلطوية الرافضة لتلك التطلعات والتي استخدمت في سبيل ذلك جميع أشكال العنف الممكنة، ولعل إرهاصات التطبيع الأخيرة مع نظام الأسد ستعد تتويجاً نهائياً لتلك الموجة من الثورات المضادة في حال نجاح هذه الجهود وعودة النظام إلى أحضان الجامعة العربية، ومن جهة أخرى فإن الانفجار الرقمي والانفتاح المهول على وسائل التواصل الاجتماعي تضاعف بشكل كبير مما يسمح بانتشار أكبر لدعوة التنظيم وخطابه، على الرغم من جهود التضييق والملاحقة التي يتعرض لها محتواه في الفضاء الرقمي.
بناء على ما سبق، هل ما يزال الخطاب الإعلامي والشرعي للتنظيم قادراً على إقناع الناس بأفكاره ودعوته، وهل سيستطيع في حال قدرته على إعادة بناء نموذج الدولة الخاص به استقطاب آلاف المقاتلين واستجلاب الدعم المالي الكبير والتأييد العاطفي الممتد كما حصل أول مرة؟، وبعبارة أخرى، إذا كان الخطاب الإعلامي الحالي للتنظيم لا يحمل أي تغيرات كبيرة وجذرية في مضمونه وأفكاره، وإذا كانت الظروف الموضوعية والخارجية هي ذات الظروف تقريباً التي رافقت ظهوره أول مرة، فإلى أي مدى سينجح التنظيم في حشد المتعاطفين والأنصار حوله مرة أخرى وتوظيفهم في سبيل بناء فردوسه الأرضي المنشود؟
وللإجابة عن هذا السؤال لا بد من النظر إلى الموضوع من خلال جوانب متعددة، فبداية ينبغي استحضار المآل المضطرب الذي آلت إليه عموم الحركات والتيارات الجهادية المعولمة، فمع خفوت الدور القيادي السابق لتنظيم القاعدة وأفول نجمه العالمي وتقلبات فروعه المحلية المختلفة، ومع التبعات الكارثية الكبرى التي تلت تجربة “تنظيم الدولة”، بات الفكر “الجهادي” اليوم في وضع لا يسمح له كثيراً في الرواج والانتشار، إذ لم يعد قادراً على تقديم نفسه كطريق للخلاص والتغيير، ولم يعد قادراً على احتواء الخلافات بين تمثلاته الواقعية فضلاً عن إقناع الناس بجدواه ونجاعته.
ومن ناحية أخرى، فإن تنظيم الدولة بوصفه “لحظة نماذجية” كاشفة تجلت فيها الأيديولوجيا المتطرفة للفكر في صورتها الأسوأ، بات من الصعب أن يجد له قبولاً مرة أخرى حتى بين اولئك المتحمسين لمفاهيم تطبيق الشريعة وإعادة الخلافة، ذلك أن الذاكرة الجمعية للشعوب العربية السنية وخصوصاً السورية والعراقية ما زالت نابضة بمشاهد القتل والتخريب والتدمير التي جرتها عليها تجربة التنظيم، إضافة إلى الأرشيف الضخم من المواد المرئية التي سجلت فظائع التنظيم وجرائمه المختلفة، نعم بلا شك قد كانت هذه الصورة المرعبة للتنظيم حاضرة وقت انتشاره الأول، إلا أن سرديات المخلص الوحيد للشعوب من بطش الأنظمة والتحرر من تبعية الدول الغربية وصورة الحياة الإسلامية المثالية والنقية التي وعد بها التنظيم كل من هاجر إليه شكلت ستارة اختبأت خلفها وحشية التنظيم ودمويته، وقد تمزقت هذه الستارة بشكل كامل وانكشفت معها عورة التنظيم بعد أن تبين كذب هذه الدعاوي وتهافتها أمام جميع الناس.
وعلى الصعيد الفكري والشرعي، فقد امتلأت رفوف المكتبة الشرعية الإسلامية بالكتب والمراجع التي فككت شبه التنظيم وحججه التي استطاع من خلالها أن يستدرج عوام الناس والمتحمسين، ولم تعد فتاواه وأفكاره قابلة للنفوذ والتأثير في عقول الشباب، في الوقت الذي استغل فيه التنظيم إبان صعوده الأول الفراغ الموجود في الفضاء الشرعي ومرر تحته العديد من الأفكار المتطرفة والمنحرفة، هذا فضلاً عن أن تطرف التنطيم وغلوه قد شكل مادة دسمة للسخرية والاستهزاء الإعلامي -تجاوزت في بعض الأحيان السخرية من تصرفات التنظيم إلى السخرية من ثوابت إسلامية واضحة- جعلت من إعادة رواجه مرة أخرى أمراً صعباً للغاية، وبالتالي فإن أفكار الخلافة وتطبيق الشريعة لم تعد جذابة كما كانت سابقاً، خصوصاً مع الموجة الإلحادية والتشكيكية بالثوابت الشرعية التي بلغت ذروتها قبل أعوام قليلة، والتي كانت تجرية التنظيم المتطرفة والكارثية ربما عاملاً رئيسياً من عوامل انتشارها وتمددها.
يضاف الى ذلك كله شعور العزوف واللامبالاة بالسرديات الكبرى وقضايا الإصلاح العام عند عموم الناس وعند شباب الإسلاميين أنفسهم كذلك، حيث حولت انكسارات الربيع العربي اهتمامات الشباب من الشأن العام وقضايا الإصلاح والتغيير إلى الاهتمام بالشأن الخاص والتطلعات الفردية، إضافة إلى ما تعيشه الأجيال الصاعدة من حالة السيولة والتفاهة مما يبعدها أساساً عن البحث عن الأجوبة عن الأسئلة والقضايا الكبرى.
ختاماً، قد يستطيع التنظيم مستقبلاً اقتناص فرصة ما للصعود مرة أخرى على مسرح الأحداث مستغلاً استمرار الواقع السيء وحالة انعدام الحلول والأمل الموجودة في عالمنا العربي، مما يؤكد ضرورة عدم الاكتفاء بالحلول الأمنية والعسكرية لمواجهة التنظيم وضرورة إيجاد الخظاب الفكري والشرعي المقابل القادر على مواجهة خطاب التنظيم وتفكيكه، وإيجاد الحلول الحقيقية لمشاكل الشباب العربي والاستجابة لتطلعاته، ومع هذه الاحتمالية المتوقعة لبروز التنظيم مجدداً إلا أن فرص انتشار خطابه وقدرته على التأثير بنفس القدر السابق تبدو ضئيلة للأسباب التي تم ذكرها آنفاً، ومع ذلك فإنه من الضرورة بمكان استمرار المتابعة والقراءة الدقيقة لخطاب التنظيم الإعلامي والشرعي للقدرة على مواكبة تطوراته وتغيراته مما يساهم في مواجهتها بشكل أكثر فعالية وقوة.