الدور المنتظر من المجتمع المدني المحلي في تعزيز رأس المال الاجتماعي السوري
منح التحرر من سلطة الاستبداد السوريين فرصاً لاستعادة الدور الأساسي للمجتمع المدني بمختلف تشكيلاته النقابية والحقوقية والإعلامية والأسرية والدينية والتطوعية ….إلخ، حيث تشكلت مئات منظمات المجتمع المدني في المناطق الخارجة عن سيطرة نظام الأسد داخل سوريا، أو خارجها في بلاد اللجوء، ما أعطاها أهمية وأدواراً متعددة خصوصاً في مجال تعزيز “الوحدة المجتمعية” أو ما يطلق عليه “رأس المال الاجتماعي” من خلال استعادة الثقة بالمؤسسات على مختلف أنواعها، بما ينعكس إيجاباً على العضوية في الشبكات الحديثة مثل النقابات والفرق التطوعية والمنظمات الإنسانية …إلخ من جهة، والمشاركة في الشأن العام سياسياً ومدنياً من جهة ثانية، واللذان يساهمان بدورهما في بناء الرؤى المشتركة تجاه القضايا المحلية والوطنية في آن معاً.
لعل المسؤولية الأولى التي تقع على عاتق منظمات المجتمع المدني في مجال تعزيز رأس المال الاجتماعي هو قضية غرس الثقة وبنائها، ليس على صعيد الأفراد، حيث أن ذلك يرتبط غالباً بالتربية داخل أطر الأسرة والمدرسة، وإنما على صعيد المؤسسات. صحيح أن المزاج العام في مناطق المعارضة وبلاد اللجوء ما يزال سلبياً تجاه قطاع عريض من منظمات المجتمع المدني السورية القائمة، وبدرجة أكبر تجاه المؤسسات الرسمية السياسية والعسكرية والخدمية المحلية، ولكن يمكن لتلك المنظمات أن تكون بالفعل هي البوابة الرئيسة التي يتم من خلالها استرداد ثقة السوريين بمؤسساتهم المدنية والرسمية في مناطق المعارضة على حد سواء، لأسباب متعددة يأتي في مقدمتها: هامش الحركة المتاح لهذه المنظمات حوكمياً وتنظيمياً، والمستوى الذي وصلت له على هذه الأصعدة، والإمكانات الحالية المقبولة نسبياً التي تمتلكها، في مقابل بيرقراطية المؤسسات الرسمية القائمة، وضعف إمكاناتها على المستوى المادي والحوكمي ، فضلاً عن ارتباطها -وهذا عامل مؤثر باعتقادنا- تاريخياً بالصورة الذهنية التي شكلها نظام الأسد عن “المؤسسات الرسمية السورية”، والتي تنسحب بطبيعة الحال على مؤسسات المعارضة الرسمية الحالية.
يشير عالم الاجتماع الأمريكي روبرت بوتنام في أحد أبحاثه أن المشاركة في المنظمات المدنية تغرس في الأفراد قيم التعاون، فضلاً عن الشعور بالمسؤولية المشتركة من أجل السعي للصالح العام، فضلاً عن أن هؤلاء الأفراد الذي ينتمون لمشارب مختلفة ويجتمعون حول تحقيق أهداف نبيلة، تميل مواقفهم إلى الاعتدال نتيجة التفاعل الجمعي. وهذه هي المسؤولية الثانية للمجتمع المدني السوري، حيث يفترض تنويع أدواته من أجل تنشيط الأفراد وربطهم بمنظماته، ولعل هذه المسؤولية مرتبطة ارتباطاً مباشراً بقضية الثقة التي يفترض في حال تحسنها، أن تنعكس إيجاباً على زيادة نسب العضوية في تشكيلات المجتمع المدني.
النتيجة الطبيعية المترتبة على نجاح المجتمع المدني السوري في تعزيز ثقة الأفراد به وانخراطهم في مؤسساته، هو زيادة اهتمامهم بالشأن العام سياسياً ومدنياً وتطوعياً بالتحديد. فعلى الرغم من صعوبة الأوضاع المعيشية لغالبية السوريين، حيث وصلت نسبة الفقر إلى 90% بحسب أرقام الأمم المتحدة، فلابد من سعي المجتمع المدني إلى إيجاد مبادرات ميدانية مترافقة مع جهود توعوية بأهمية الانخراط في الشأن العام تستهدف الفئات الأكثر استعداداً لذلك، كطلبة الجامعات والتجار، وهذا هو الدور الثالث المأمول.
أما الدور الرابع للمجتمع المدني السوري فيتركز على توظيف حالة انفتاح الفضاء العام من أجل إثارة النقاشات المرتبطة برؤى الحاضنة الشعبية في مناطق المعارضة وبلاد اللجوء نحو القضايا المحلية والوطنية كقضايا العقد الاجتماعي والحل السياسي، بما يساعد على خلق توافقات محلية ووطنية تجاه هذه القضايا، ويساهم في تخفيف الاحتقان المجتمعي تجاهها.
يتطلب مراعاة السياق المحلي السوري توزيع الأدوار الأربعة السابقة بحسب الاختصاص، فعلى الرغم من وضوح هذه الأدوار، إلا أنها لا تتوزع بالتساوي على جميع تنظيماته ومؤسساته، على سبيل المثال، عندما نتحدث عن الثقة ودور المجتمع المدني في تعزيزها، تتحمل المنظمات الإنسانية غير الحكومية العبء الأكبر في ذلك بحكم اتساع نطاق احتكاكها المباشر مع الحاضنة الشعبية مقارنة بتنظيمات أخرى كالنقابات والمنظمات الحقوقية مثلاً، وحلولها مكان مؤسسات الدولة في كثير من المجالات الخدمية كالتعليم والصحة والمياه ..إلخ، بالمقابل تتحمل المؤسسات الدينية والفرق الشبابية المسؤولية الأكبر في تعزيز فكرة المشاركة والعضوية بحكم أن تأسيسها ونشاطها يقوم على فكرة التطوع أكثر من غيرها من تشكيلات المجتمع المدني السورية، في حين يبرز دور المؤسسات الإعلامية ومراكز الدراسات والتنمية السياسية أكثر من غيرها في تحقيق الرؤى المشتركة.
كل ما تقدم، يبين المسؤولية الكبيرة الملقاة على عاتق المجتمع المدني السوري في تعزيز رأس المال الاجتماعي، فمن المعايير الخمسة التي يقاس بها عادة، ثمة معيار واحد فقط هو الذي يقع خارج دائرة تأثيرها بشكل مباشر، وهو: معيار التفاعل والتواصل بين الأفراد، في حين تدخل المعايير الأربعة الأخرى المتبقية في علاقة تأثير وتأثر مباشر بالمجتمع المدني.
مدير وحدة التوافق والهوية المشتركة في مركز الحوار السوري، يحمل شهادة الدكتوراه في القانون العام من جامعة حلب، وحائز على اعتمادية المعهد العالي للحقوق في الشرق الأوسط، وعمل سابقاً كمدرس في كلية الحقوق في جامعة حلب الحرة. يركز في أبحاثه الحالية على دراسة ديناميكيات العلاقة بين المجتمع السوري والنصوص القانونية والدستورية منها على وجه التحديد.