أقلام المنتدى

في الأزمات.. هل تُجدي دعوات التهدئة؟

مع كل توتر مجتمعيّ يعيشه السوريون في تركيا ترتفع الأصوات وتنقسم بين مَن يُطالب بالتهدئة ومَن يُطالب بالتصعيد، وتتحول معها مواقع التواصل الاجتماعي إلى ساحات يطالب فيها البعض بالتصرف بعقلانية، ويسعى فيها آخرون للتنفيس عن غضبهم وبثّ همومهم؛ لعلّها تلقى آذاناً صاغية عند مَن يُفترض أن يملكوا مفاتيح القرار.

وتنتقل بعض هذه الأصوات إلى أرض الواقع؛ حيث يحاول بعض السوريين الاستفادة من علاقاتهم والتواصل مع بعض المعنيين من الطرف التركي لنقل مخاوفهم وتصوراتهم ومقترحاتهم للحلول، وقد تُقابل هذه المساعي بالتعاطف تارة وبالوعود تارة أخرى؛ إلا أن خطوة عملية لم تُتخذ بعد لإزالة فتيل هذا الاحتقان الذي بدأ يُنذر بانفجار وشيك.

وقفة مع حادثة الشاب نايف

فُجع السوريون في تركيا بحادثة غريبة ذهب ضحيتَها شابٌّ سوريٌّ يُدعى “نايف النايف” لم يتمّ العشرين من عمره، قدم هارباً من سوريا قبل ثلاثة أشهر، واستقر في إسطنبول بعد أن وجد عملاً يمكّنه من إعالة نفسه ومساعدة عائلته التي تركها دون معيل، ليَلقى بعدها حتفه على سريره بعد منتصف الليل على يد مجموعة من الشبان.

وفيما يحاول البعض توصيف جريمة مقتل هذا الشاب بكونها جريمة عنصرية فإن المعلومات الأولية الواردة عنها تشير إلى كونها جريمة سطو مسلح متعمد انتهت بجريمة قتل؛ فالمتورطون في هذه الجريمة من جنسيات تركية وغير تركية، ارتكب بعضهم سوابق جنائية، ونفّذوا جريمتهم بعد منتصف الليل بعد أن انتحلوا صفة رجال أمن.

تثير هذه الجريمة العديد من الأسئلة حول دوافع هذا الاستهداف، ولماذا أغرى هذا المنزل المتواضع جداً – وفقاً لما ورد في الصور- هؤلاء المعتدين ليقوموا باقتحام المنزل وتهديد سكانه وقتل أحدهم وهو نائم على فراشه دون أن يُبدي مقاومة تذكر، ثم الخروج من البناء بسهولة بعد هذه الجلبة دون أن ينتبه إليهم أحد من الجوار أو يتدخل؟!

وتُلقي هذه الحادثة الضوء مجدداً على شريحة من الشباب السوري تعيش فيما يُعرف بـ” السكن الشبابي“، قدمت إلى تركيا بشكل غير قانوني، واضطرت للمخاطرة بحثاً عن فرصة أفضل للحياة، تعيش واقعاً صعباً وتتعرض للعديد من المخاطر والاستهداف خلال احتكاكها اليومي مع المجتمع التركي.

ومن جهة أخرى يثير توقيت الجريمة أيضاً أسئلة حول إمكانية ارتباطها بحوادث أخرى، لاسيما وأنها جاءت بعد أيام من حادثتين في كل من أسنيورت وإزمير؛ إذ  تشير هذه الأحداث الأخيرة إلى وجود”مهددات الانسجام الاجتماعي بين السوريين والمجتمع التركي“، وأنها قد باتت تظهر على أرض الواقع، وأن موجة الاحتقان والتحريض ضد السوريين قد انتقلت إلى مستويات أعلى تتجلى بالاستهداف المباشر ذي الطبيعة الجرمية، والتي يُخشى أن تتحول من حوادث فردية إلى مزاج مجتمعي.

موجات من الرعب على كلا الضفتين

لا يمكن مقاربة الحوادث الأخيرة ولا فهم ردود الأفعال دون الإضاءة على السياق العام؛ فكلا الطرفين السوري والتركي أصبحوا فريسة لموجة من الرعب بدأت تهدد حياتهم، فعلى الجانب التركي انعكست تداعيات أزمة كورونا بشكل واضح على الاقتصاد التركي الذي تضرر بشكل واضح نتيجة الإغلاق وتراجع السياحة، كما أن السياسات الحكومية الاقتصادية قد أدّت إلى هزّة اقتصادية واضحة برزت آثارها بشكل سريع على سعر صرف الليرة التركية وعلى أسعار السلع عموماً.

ومع هذه الأزمة الاقتصادية، ومحاولة أرباب العمل تقليص كلفة الإنتاج باللجوء إلى العمالة السورية الرخيصة وتشغيلها بشكل غير نظامي وجد الأتراك أنفسهم مخيرين بين البطالة والقبول برواتب منخفضة، ووجدوا أن العديد من أصابع الاتهام تتوجه نحو السوريين؛ إذ يصرّ بعض الإعلاميين والسياسيين الأتراك على تحميل السوريين -مراراً وتكراراً- مسؤولية تردّي الواقع الاقتصادي والمعاشي الذي يعاني منه الجميع حالياً متجاهلين أية أسباب أخرى.

وعلى الجانب الآخر يعيش السوريون في تركيا منذ أشهر رعباً متزايداً نتيجة العديد من الحوادث التي ارتفعت وتيرتها مؤخراً؛ فقد عادت التصريحات السياسية التحريضية للواجهة، وتسابقت بعض الأحزاب إلى تقديم وعود بترحيل السوريين إلى بلادهم بالطبل والزمر، في محاولة لاستغلال الأوضاع الداخلية المتوترة والدعوة إلى انتخابات مبكرة.

كما تشير بعض القرارات الأخيرة إلى تغيُّر في السياسات الحكومية الرسمية نحو مزيد من التشديد والصرامة، وفرض المزيد من القيود القانونية والبيروقراطية؛ سواء فيما يتعلق بتثبيت عنوان السكن، أو التعقيدات البيروقراطية التي تتعلق بتجديد الإقامة السياحية، أو التشدد في عودة السوريين إلى الولايات التي سجلوا فيها أول مرة، حتى لو لم تكن تلك الولايات قادرة على تأمين فرص عمل لهم.

وإلى جانب ذلك تظهر حالة من التساهل في تطبيق سياسات الترحيل دون دواعٍ واضحة؛ فقد أصبحت عمليات الترحيل تتم بكثافة وعشوائية، بغضّ النظر عن الجرم أو الخطأ المرتكب، حتى لو كان هذا الخطأ صادراً عن أشخاص لا يدركون العواقب أو أنهم تحت سن المحاسبة القانونية، أو بحق متهمين ثبتت براءتهم لاحقاً.

سياقات التهدئة المطلوبة

من الصعب الحديث عن التهدئة في جو يتزايد احتقاناً يوماً بعد يوم، خاصة على الطرف السوري؛ فلقد هزّت الجريمة الأخيرة غالبية السوريين رغم كونها جريمة اعتيادية، لأنها لخصت أمامهم حياة السوري الذي يقضي حياته مكافحاً ساعياً وراء لقمة العيش ثم يتم اغتياله وأحلامه، وأبرزت نموذجاً للسوري الذي نجا بأعجوبة من ويلات الحرب واعتقد أنه سيبدأ صفحة جديدة من حياته؛ وإذ به يموت غِيلة على فراشه دون ذنب اقترفه.

كما أنها عزّزت لدى ملايين السوريين في تركيا المخاوف التي يحاولون تجاهلها، وولّدت إحساساً لديهم بأنهم مستهدفون غير محميين، مهددون في حاضرهم وفي مستقبلهم وفي أولادهم واستثماراتهم؛ فهم يعتقدون أن السياسات الحكومية والإعلامية التركية في مواجهة المشاكل كانت أكثر صرامة وحكمة عندما كان الضحية تركيّاً، فيما لم تبد تلك الجهات سياسات مماثلة عندما يكون الضحية سورياً.

وإلى جانب ذلك لا يبدو لهم أن للقانون سلطة واضحة حاسمة إلا عندما يكون دوره عقابياً، بينما لا تبدو سلطة القانون بالقوة نفسها عندما يحتاجه السوريون للوصول إلى حقوقهم، حيث تبتلعهم دوامة البيروقراطية والمخاوف بأن يتأثر وضعهم القانوني نتيجة مطالباتهم بتلك الحقوق.

يُدرك السوريون أنهم لا يملكون هوامش واسعة للتحرك في عملية احتواء الاحتقان؛ فالمعني الأساسي في موضوع التهدئة المجتمعية على الجانبين هي الجهات الرسمية التركية التي تمتلك الأدوات والقوانين والإمكانيات اللازمة، وتستطيع احتواء الأزمة وتخفيفها أو تجاهلها، وتتحمل عواقبَها سياسياً ومجتمعياً.

كما يعرفون أيضاً أنهم غير قادرين على الوقوف في وجه حملات التحريض ضد وجودهم، أو تصحيح المعلومات المغلوطة حولهم، مع ضعف أو غياب الجهات الإعلامية الممثلة لؤاهم والناطقة باللغة التركية والتي تقدر على مخاطبة المجتمع التركي والتأثير به، عدا عن تأخر تجريم خطاب التحريض والكراهية ضد السوريين وتعاقب مرتكبيه.

إلا أنه من غير المنطقي أيضاً أن ينتظر السوريون من الحكومة التركية -المشغولة باستحقاقاتها الداخلية والخارجية- أن تغير أولوياتها وتلتفت لمشكلاتهم، كما لا يُتوقع أيضاً أن تؤدي حالة التذمر والشكوى المتصاعدة على مواقع التواصل الاجتماعي إلى أي تغيير إيجابي ما لم يشمّر العقلاء عن سواعدهم ويستلموا زمام المبادرة والسعي للتدخل؛ للتخفيف من هذا الاحتقان الشعبي الذي يهدد وجهودهم واستقرارهم واستقرار المجتمع الذي استضافهم.

إن الشيء الوحيد الذي يمتلكه السوريون حالياً هو التحول من حالة الشلل والتخوف والتذمر إلى الحركة الرشيدة المدروسة والتخطيط الفعال التي تقودها شخصيات سورية اعتبارية لها وزنها الاجتماعي والعلمي، نظمّت صفوفها ودرست مشاكلها وفهمت مخاوف المجتمع المضيف ووضعت خطة استراتيجية تتحرك من خلالها على شتى الأصعدة، سياسياً واجتماعياً وأكاديمياً وحقوقياً وإعلامياً، وعلى كافة المستويات وتشمل جميع الأطراف بلا استثناء، متجنبة الوقوع في فخّ التحزبات السياسية التركية، ومحافظة على مسافة متساوية من كل الفرقاء.

إن هذا التنظيم بات ضرورة ملحّة من أجل احتواء الأزمة الحالية؛ حيث إن نجاحه في التواصل الفعّال مع أطياف المجتمع التركي، وقدرته على صياغة تحالفات مع منظمات وجمعيات مدنية تركية صديقة – خاصة القانونية منها والحقوقية –  يمكنها أن تساعد في التخفيف من الآثار الناتجة عن الاحتقان الحالي، والضغط باتجاه تفعيل قوانين جديدة من شأنها أن تعيد الثقة لدى السوريين بقدرة أدوات الدولة ومؤسساتها على حمايتهم والمحافظة على حقوقهم بعدالة وموضوعية، ومعاقبة مَن يحاول إثارة الفتنة وقلقة الأمن والسلم المجتمعي.

الموقع الإلكتروني | مقالات الكاتب

مديرة الوحدة المجتمعية في مركز الحوار السوري، بكالوريوس في الهندسة من جامعة دمشق، دبلوم في التخطيط العمراني وإعادة الإعمار المستدام، عملت في مجال الإعلام لعدة سنوات، نشرت العديد من الأوراق والتقارير البحثية في مواضيع سياسية واجتماعية، وخاصة ما يتعلق بأوضاع اللاجئين وقضايا المرأة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى