السوريون في المهجر وموجة التغيير الفكري
إن الثورات التي تشكل أعنف أشكال التغيير المجتمعي وأكثرها اتساعا وعشوائية تمتد لتشمل كل نواحي التغيير تقريبا، فالثورة وإن كان منشأها غضبا من الأداء السياسي أو الضيق الاقتصادي أو الأعباء الأمنية وغياب الكرامة وحقوق المواطنة، لا تلبث أن تصبح رِدَّة مبدئية عن كل المسلمات والثوابت، فإما أن تكون قوية تصمد في وجه رياح الرفض وإما أن تزول فتحل محلها مسلمات أخرى وأفكار جديدة، وهذه المسلمات تشمل الانتماءاتِ القبليةَ والقوميةَ والثوابتَ الدينية والشخصيات والرموز وحتى المؤسسات العامة الرسمية منها وغير الرسمية، ومن السهل في الحالة السورية رصد هذا التأثر الشديد بالتغيير الشامل الكلي خصوصا على فئة الشباب، فبعد ردِّ رموز النظام والدولة وخلع شرعيتها في أذهان الناس وتعرية هيبتها تماما، امتد الرفض ليطال الكثير من الأشخاص الحقيقيين والاعتباريين من قبل الشارع السوري.
ومن الملاحظ أن الفئة الأكثر تأثرا على الإطلاق هي فئة الشباب التي كان من السهل عليها خلعُ المرويِّ والموروث والبحثُ بشجاعة -غير مضبوطة في أغلب الأحيان- عن الأبْدَال في كل المجالات المذكورة، ويمكن إرجاع ذلك إلى حداثة عهدهم وعدم ارتباطهم بالثوابت المجتمعية بنفس الدرجة التي نراها في الأجيال السابقة حتى صار من الممكن أن نقول: إن الثورة اتسعت لتشمل كل شيء تقريبا، ونتيجة لهذه الحالة التي شملت أغلب المناطق شهدنا جدالات وتصادمات على كل الأصعدة وأهمها الفكري لتصعد تيارات فكرية – منها الدينية والسياسية- وتأخذ حصتها من التأييد والتبعية إلا أن قسما غير قليل من الشباب وقع في حالة من الفراغ الفكري وعدم الاستقرار والتركيز هنا على التغير الطارئ في حالة التدين، فأصبحنا نرصد فئات قامت بمراجعات حقيقية على فكرها الديني متأثرين بتيارات الفكر الإسلامي المتدافعة وفئاتٍ أخرى أعياها البحث والتنقيب فاستقر بها الحال إما في أحضان تيارات أخرى غير دينية أو إلحادية وإما في “منتصف الطريق” والذي من الممكن أن نسميه حالة اللامبالاة الدينية أو الفكرية.
وحسب وصف بعض الموجودين في مناطق النظام فإن الالتزام الديني وإن كان تأثر من ناحية العمق بشدة إلا أنه لا زال منتشرا بين أوساط شرائح المجتمع ومنها الشباب، ولا زال هناك ارتباط يشبه الارتباط القديم ما قبل الثورة بالمؤسسة الدينية والشبكة المشيخية في مناطق النظام.
لكن التأثير الأكبر لهذه الدوامة كان من نصيب المهجرين والمغتربين حيث تكثر في مناطق سيطرة الثوار مساحات الحوار والنقاشات الفكرية في إطار التدين أيضا لكنها خرجت من عباءات المشيخة التقليدية، أما المغتربون في الدول الغربية خصوصا وقد نستطيع إلحاق المغتربين في تركيا بهم فقد كانوا على موعد مع دوامة أخرى ومفاجأة من نوع لم يعهدوه مما زاد من عجمتهم وتخبطهم لفترة ليست بالقصيرة، فأصبحنا نرصد حالات ردة أو إلحاد أو تغير شاذ في الفكر الديني من أشده تطرفاً كالذين انتهى بهم الحال في تنظيم داعش إلى أكثرها تساهلا و”انفتاحاً” كالمنجرين وراء دعوات الجمع بين الأديان والمسماة “بالديانة الإبراهيمية”، كما أصبحنا نشاهد تساهل الكثيرين غير المسبوق بمسائل “حقوق” (الشواذ: المثليين والمتحولين) وغيرها الكثير من الأمثلة التي تدل على تهدم فكري حقيقي لم يتم ترميمه ببنية فكرية أخرى.
من الملاحظ أيضا ظهور بعض الشخصيات السورية على منصات التواصل بدعوات صريحة للإلحاد ومحتوى يتناول أسباب تركهم للدين والأفكار التي يرون فيها تضادّاً مع العقل والمنطق من وجهة نظرهم وبعض هذه الشخصيات يحظى بمتابعة غير قليلة مع أنه لا يوجد بيانات ترصد تأثيرها وتقيس تفاعل الناس معها، إلى جانب ذلك نرى ظهورا لتكتلات باسم الملحدين أو “اللادينيين” السوريين يصل يتفاوت عدد أعضائها بين 20 إلى 30 ألفا وبعضها ينطق باللغة العربية أو الإنكليزية.
وفي دراسة قدمتها صحيفة الاستقلال بعنوان “الإلحاد بين اللاجئين السوريين.. الأسباب والسياقات” قوبل عشر شباب سوريين مغتربين قرروا ترك الإسلام إلى “اللادينية” أشاروا في كلامهم إلى تأثرهم بالحريات والانفتاح اللذين واجهوهما في الدول التي هاجروا إليها وهو ما فتح الباب إلى تأثرهم بثقافة الشك بكل شيء وإعادة النظر في المسلمات السابقة ومنهم من أرجع الموضوع إلى وقوعه في الحيرة بين الأديان التي يدعو كل منها إلى نموذج مختلف من التدين والنظرة عن الإله وهذا بكل تأكيد نابع من اطلاعه على الديانات الأخرى في المهجر واختلاطه بمنسوبيها، كما تأثر الكثير منهم بالوضع الاجتماعي في سوريا في إشارة إلى رفضهم للطوائف والطبقات ورجال الدين كمحددات أساسية للمجتمع السوري، بالإضافة إلى أن تأثير الحرب السورية يظهر جليا في اعتبار بعضهم “معضلة الألم” سببا في رفضه لفكرة الإله أو على الأقل بعض صفاته.
كل ما سبق من رصد أولي يوحي بأننا شهدنا ولا زلنا نشهد مرحلة جديدة وساحة إضافية للجدال الفكري في الوسط السوري وخصوصا وسط الشباب، إذ أن موجة التحول إلى الإلحاد تلقت بنفس الوقت رداتِ فعلٍ قويةً تتمثل في مشاريع وكتابات بعضها بجهود شخصية وبعضها أعمال تقف خلفها مؤسسات كاملة، وذلك ما جعل تلك النقاشات تصل إلى بعد آخر من التأصيل المنطقي والعلمي للشبهات المطروحة والمتداولة والرد على الأسئلة والادعاءات من وجهة نظر الدين ومن الناحية العلمية والمنطقية على حد سواء، ولا زال من المبكر جداً الجزم بقدر التأثير الحاصل منذ اندلاع الحراك ورصد صعودات التيارات الفكرية وانحساراتها في هذه المرحلة الحرجة من عمر الثورة.