العلاقات الإيرانية الأمريكية “الإسرائيلية” … هل حقا ثمة مؤامرة ؟!
تثير ممارسات إيران متناقضة الدلالات جدلاً واسعاً متجدداً حول حقيقة تعاملات النظام الإيراني مع الولايات المتحدة و”اسرائيل” وطبيعة العلاقة بينهما؛ فمن جهة نرى الخطابات النارية الإيرانية ضد الولايات المتحدة و”إسرائيل”، والتضخيم الإعلامي لإيران كمهدد للوجود “الإسرائيلي” وللمصالح الأمريكية في المنطقة؛ في حين لم يغب التعاون الأمريكي الإسرائيلي الإيراني في مسار العلاقات بينهم قديماً وحديثاً، لا سيما فيما يخص بعض الملفات الإقليمية كالعراق وأفغانستان. الأمر الذي أدّى حقيقة إلى ظهور بعض المحاولات لاختزال العلاقة بتوصيفات موجزة؛ كالتحالف السري وهو ما بات يعرف ب”نظرية المؤامرة”؛ التي ترى أنَّ كل ما حدث ويحدث وسيحدث من مواجهات ومناوشات وتدافعات هو نتيجة “تحالف سري” ثلاثي الأطراف للهيمنة على المنطقة العربية وتقاسم النفوذ فيها.
وتُعرَّف المؤامرة عادة بأنها عبارة عن خطة يحيكها أحد الأطراف منفرداً أو بالتعاون مع أطراف أخرى للتواطئ ضدَّ أطراف مناوئة، وذلك بالتخطيط ورسم السياسات ووضع أساليب وأدوات لتحقيق أهداف المتآمرين وإفشال خطط المتآمَر عليه بأساليب المكر والخداع والاستدراج والمناورات وغيرها. وعليه، فإنَّ التآمر جزء لا يتجزأ من السياسة ومن الصراع المحكوم بالمصالح وبعلاقات معقدة متناقضة ترتكز على مزيج من عوامل سياسية وثقافية واجتماعية واقتصادية. وهو أمر ثابتٌ تاريخياً، قديمٌ بقدم البشرية. ولا يمكن إنكار وجود المؤامرة بالمطلق بهذا المعنى لانَّ ذلك يخرجنا من دائرة الواقعية والحقيقة، وضمن هذا التعريف أيضاً يمكننا وصف اتفاقية سايكس بيكو مثلاً بأنها “مؤامرة”؛ كونها كانت اتفاقاً سرياً بين فرنسا وبريطانيا وروسيا القيصرية على اقتسام مناطق نفوذ الدولة العثمانية بعد خسارتها الحرب العالمية الأولى. كذلك لا يخفى تواطؤ وتآمر محور “الثورة المضادة” على الشعوب العربية الثائرة طلباً للحرية والكرامة.
في المقابل إنَّ عدم إنكار وجود المؤامرات في التاريخ لا يعني جواز إطلاق لفظ “مؤامرة” على كل حدث مستجد، وعلى كل تكتيك في صراع دائر دون البحث عن خلفيات ووقائع ذلك الحدث والظروف التي أدت إلى وقوعه، وهو ما يميز أصحاب “نظرية المؤامرة”؛ الذين يخلطون عادة بين “المؤامرة”؛ وبين الصراع القائم لأهداف سياسية واقتصادية وثقافية وحضارية، وهو صراع قائم وحاضر في كل مراحل التاريخ على اختلاف الأزمنة والأمكنة، الأمر الذي يورث بطبيعة الحال نوعاً من الانهزامية والعجز والوهن وتبرير الانتكاسات والهزائم بتفسير بسيط مختزل مؤامراتي، بدلاً من البحث والتنقيب عن الدوافع والأسباب والتعقيدات التي تحيط بحدث أو ظاهرة ما.
ومع انتشار التفسير التآمري ليشمل كل جوانب الحياة العامة والخاصة تقريباً؛ فليس من العجب تسلل هذا التفسير ليشمل العلاقات الدولية وتجاذبات السياسة بين الفواعل الإقليمية والدولية والمحلية المختلفة، جامعاً تعقيدات السياسة وتناقضات المصالح وحسابات الدول الثابتة والمتغيرة بمفردة “مؤامرة”، حتى أصبحت كل مواجهة أو تكتيك عسكري أو خداع سياسي أو استراتيجي _ في نظر هذا التفسير _ باعتباره مؤامرة بين قوى ذات قدرات لا محدودة لا يمكن مواجهتها أو التعامل معها.
وبالعودة إلى طبيعة تفاعل العلاقة الإيرانية مع كلٍّ من الولايات المتحدة و”إسرائيل”؛ يُظهر تتبع مسار العلاقة تأثرها بشكل كبير سلباً أو ايجاباً بعوامل معقّدة مرتبطة بعوامل داخلية؛ كتقلبات السياسة الداخلية في كلٍ من إيران “ثنائية الإصلاحين والمحافظين” والولايات المتحدة “الجمهوريين والديمقراطين”، وخارجية؛ متعلقة بالأجواء الإقليمية والعالمية وتغييرات النسق الدولي “الحرب الباردة/ الهيمنة الأمريكية على النظام الدولي”، فضلاً عن محددات تاريخية وإيديولوجية دينية وجيوسياسية واقتصادية وعوامل ذاتية وموضوعية يصعب حصرها في هذا المقال. وبالتالي، فإنَّ إطلاق وصف المؤامرة على تلك العلاقة المتشابكة دون الفهم العميق والواعي للأحداث وللأسباب الموضوعية الكامنة وراء تلك الوقائع؛ يحدُّ رؤيتنا بنطاق ضيق وتفسير ظاهري غير منضبط لحقيقة سير الأحداث وتفاعلاتها.
وعلى أي حال، إنَّ نقد التفسيرات التآمرية والتنبيه على خطورتها وافتقارها عملياً إلى أدوات تساعد على تحديد الاتجاهات العامة للأحداث والظواهر المستجدة المعقدة، سياسية كانت أم اجتماعية أم ثقافية، لا يعني أبداً الانجرار إلى تفسير تلك القضايا والأحداث بأنها تحدث بمحض الطبيعة “العفوية الارتجالية”دون تخطيط وتدبير وتآمر؛ فهذا التآمر والتدافع والتخطيط والمكر هو سنة الصراع بين القوى المختلفة في خضم تنافسها في سبيل تحقيق مصالحها وأجنداتها الخاصة، المتضاربة أحياناً والمتوافقة أحياناً أخرى، وهو ما يمكن أن نلتمسه عند البحث في علاقة النظام الإيراني مع كلٍّ من الولايات المتحدة و”إسرائيل”.