غوبلز يفقد أجنحته… عن الحملة الأمنيّة التركية ضد العنصريّين المحرّضين
يُنسَب لوزير الدعاية النازي جوزيف غوبلز قوله: “اكذب اكذب حتى يصدقك الناس”، وعلى هذا بنيت استراتيجية السياسيين والصحفيين الأتراك المعادين للاجئين بشكل كبير في تعاملهم مع قضية اللاجئين السوريين وتحريضهم للجمهور التركي ضد اللاجئين، لكن الحادثة الأخير في طرابزون مهدت لبدء حملة مضادة.
شهدت تركيا قبل أسبوعين حادثة اعتداء على سائح كويتي في مدينة طرابزون أثارت لغطًا كبيرًا في الإعلام التركي والعربي، وكان تناول الإعلام العربي لهذه الحادثة كبيرًا جدًا وتصاعدت بعدها دعوات لمقاطعة السياحة والاستثمار في تركيا والتوجّه لبلاد أخرى بسبب ارتفاع مستويات العنصرية في البلاد[1].
كانت حادثة الاعتداء على السائح الكويتي هي القشة التي قصمت ظهر البعير، إذ تحرّكت الحكومة التركية سعيًا لاحتواء الأزمة التي قد تُصيب القطاع السياحي والاقتصاد التركي مع تصاعد دعوات المقاطعة، وكان من بين هذه التحركات تصاعد خطاب الساسة والمسؤولين في الحكومة، مثل دولت بهتشلي رئيس حزب الحركة القومية ويلماز تونتش وزير العدل التركي، اللذين قالا إن الأشخاص الذين يبثّون الكراهية ضد اللاجئين والأجانب قد تجاوزوا حدودهم، وإنه تجب محاسبتهم قانونيًا[2]. الأمر الذي يشير إلى أن الحكومة وحلفاءها بدؤوا يشعرون بأن الحملات العنصرية باتت تشكل خطرًا على مصالح الدولة والشعب التركي.
خطاب إعلامي مضاد
بدأ العديد من الإعلاميين والنشطاء الأتراك من أنصار الحكومة ومن بعض أطياف المعارضة –حتى قبل الاعتداء على السائح الكويتي- برفع أصواتهم رفضًا للعنصرية والكراهية، وكان من أبرز هذه التحركات تنظيم جمعية Özgür-Der التركية مظاهرة لرفض العنصرية في حديقة سراج خانة في إسطنبول قبل أسبوعين، تضمّنت العديد من الخطابات المطالبة بعدم السكوت عن العنصريين، وإيقاف الممارسات التعسّفية ضد اللاجئين والأجانب[3].
كما بدأ عدد من الصحفيين الموالين للحكومة ببيان رفضهم للعنصرية وتوضيح خطرها على المجتمع التركي وعلى علاقة تركيا بدول العالم، وأشاروا -على حد قولهم- إلى أن العنصرية دخيلة على الشعب التركي، وأن الشعب التركي والشعوب العربية إخوة وأمة واحدة[4].
بينما ذهب قسم من الإعلاميين الآخرين باتجاه بيان الأضرار الاقتصادية التي تتسبّب بها الحملات العنصرية، إذ ذكر بعضهم أن القطاع السياحي في طرابزون وولايات شمال تركيا (التي يقصدها في الغالب السياح من دول الخليج العربي) يشهد حاليًا تراجعًا غير مسبوق منذ عشر سنوات، ونقلوا عن عدد من أصحاب الشركات السياحية في تلك المنطقة قولهم، إن السياح باتوا يفضّلون الذهاب لدول أخرى خشية التعرّض لهجمات عنصرية في تركيا[5].
حملة أمنيّة ضد المحرّضين
بدأت الحكومة التركية بعد ذلك بترجمة هذه التصريحات والتحركات الإعلامية إلى خطوات على الأرض، وأصدرت أمرًا بالقبض على 27 شخصًا منهم صحفيون ومديرو حسابات على وسائل التواصل الاجتماعي اشتُهروا بمنشوراتهم العنصرية[6]، ووجّه الادعاء العام التركي لهم تهمة بث الكراهية بشكل علني، ونشر المعلومات المضلّلة بشكل علني، وجرى تثبيت اعتقال عدد منهم، فيما أُطلق سراح البعض الآخر لأسباب مختلفة[7].
لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، إذ أُغلقت عدد من الحسابات الكبيرة في وسائل التواصل الاجتماعي المشهورة ببث الكراهية ضد اللاجئين والأجانب، إما بأمر قضائي أو بسبب قيام أصحاب هذه الحسابات بإغلاقها خوفًا من المحاسبة التي طالت أقرانهم في هذه الحملة الأمنية[8].
وبعد أيام من القبض على المتهمين، نشرت وسائل إعلام تركية بعض الإفادات التي أدلى بها المتهمون، وكان من بينهم شخص إيراني قال إنه عمل في حساب يدعى Ambargo TV كانت مهمّته فيه هي تصميم مقاطع وصور مفبركة ضد اللاجئين، وأن ذلك كان يتم بطلب مباشر من أوميت أوزداغ نفسه[9]، في إشارة واضحة إلى ارتباط أوزداغ وحزبه بشبكة الحسابات التي كانت تستهدف اللاجئين بالأكاذيب بشكل مستمر طيلة العامين الماضيين، وهو الأمر الذي يستدعي من الادعاء العام التركي أن يوسّع من تحقيقه في هذه القضية ليشمل الرؤوس الكبيرة التي تدير هذه الشبكة.
أوزداغ يتخذ موقف الدفاع
عُرِف عن رئيس حزب الظفر المعادي للاجئين، أوميت أوزداغ، مواقفه وتصريحاته الهجومية اللاذعة البعيدة عن الدبلوماسية والبراغماتية؛ إلا أنه بدأ بتغيير لهجته بشكل ملحوظ بعد هذه الحملة الأمنية، إذ رأى البعض أنه بدأ يستشعر خطر وصول التحقيقات والاعتقالات لأعضاء حزبه وله هو شخصيًا.
خرج أوزداغ بعد يوم من القبض على المحرّضين في مؤتمر صحفي وقال إنه وحزبه لا يعترضون على قدوم السياح والطلاب إلى تركيا، وإنما هم فقط يرفضون بقاء اللاجئين لأنهم يهددون أمن تركيا وتركيبتها الديمغرافية. كما أشار أوزداغ إلى أنه لا يعادي اللاجئين، وإنما يراهم أصدقاء لتركيا ويجب أن يعودوا إلى بلادهم للحفاظ عليها ولاستمرار العلاقة الجيدة بين الشعب التركي واللاجئين بعد عودتهم إلى بلادهم[10].
لم يكتفِ أوزداغ بهذا، بل أعاد نشر خطاب قديم له وجّهه للسوريين، ودبلجه باللغة العربية باستخدام الذكاء الاصطناعي، وتركّز محتوى الخطاب على ضرورة عودة اللاجئين إلى بلادهم ومحاولة إقناعهم بأن الحرب انتهت بشكل كبير وأن الحياة هناك بدأت تعود لطبيعتها[11].
وتشير هذه التصرفات إلى أن أوزداغ وحزبه باتوا الآن يخشون تنفيذ حملة أمنية وقانونية تستهدفهم بشكل مباشر بسبب الانتهاكات المتكررة التي ارتكبوها خلال العامين الماضيين بتحريضهم ضد اللاجئين والأجانب وزرع الكراهية والعداوة ضدهم داخل المجتمع التركي.
خاتمة
جاءت هذه الحملة الأمنية ضد المحرّضين متأخرة بعض الشيء، لكن أن تصل متأخرًا خيرٌ من ألا تصل أبدًا، إذ هدأت موجة الأكاذيب التي تستهدف اللاجئين والأجانب بشكل كبير بعد القبض على هؤلاء، كما انشغلت الأحزاب المعادية للاجئين بالدفاع عن نفسها بدلًا من الاستمرار بالهجوم عليهم بالزخم السابق نفسه.
الأمل الآن هو ألا تكون هذه العملية مؤقتة ومحدودة، وأن تتم محاكمة المقبوض عليهم بشكل عادل ومحاسبتهم على الانتهاكات والمخالفات التي ارتكبوها، وأن تصل يد العدالة في أسرع وقت ممكن إلى المحرضين الكبار الذين قادوا ونظموا الموجات التحريضية ضد اللاجئين خلال العامين الماضيين، بما في ذلك الساسة والصحفيون المعروفون بتحريضهم المتكرر والمستمر.
التأخر في مكافحة العنصرية وخطاب الكراهية أو التهاون مع مرتكبي هذه الجريمة لن يؤدّي إلا إلى تفاقمها، وقد رأى الجميع هذا في العامين الماضيين عندما بدأ هؤلاء المحرضون ببث الكراهية بشكل مستمر دون محاسبة، بشكل أدّى إلى انتشار أفكارهم وأكاذيبهم وترسّخها بشكل كبير بين أفراد المجتمع التركي، وانتقال أثرهم التحريضي إلى أرض الواقع على شكل اعتداءات وجرائم نابعة من أسباب عنصرية، لذا فإن التأخّر في محاسبة بقية المحرّضين، والتهاون مع المقبوض عليهم قد يؤدي إلى أثر عكسي بزيادة انتشار تحريضهم في الفترة المقبلة.