تمرّد فاغنر من وجهة نظر الإعلام التركي
انقلبت اهتمامات وسائل الإعلام والصحافة في جميع أنحاء العالم رأسًا على عقب مع إعلان يفغيني بريغوجين، زعيم شركة “فاغنر” للمرتزقة الروس، التمرد ضد وزارة الدفاع الروسية، ومن ثم سيطرة قواته على مدينة روستوف وتهديدهم بالتقدم نحو موسكو، إلا أن هذه التطورات انتهت سريعًا بتوسط رئيس بيلاروسيا وإسهامه في الإعلان عن هدنة بين الطرفين أنهت المعارك التي استمرت ليوم ونصف فقط.
تابعت وسائل الإعلام والصحافة هذه الأحداث وعلّقت عليها بصور مختلفة، وذلك تبعًا لوجهات نظر ورؤية القائمين عليها، أو تبعًا لتوجهاتهم السياسية والأيديولوجية، ولم تكن وسائل الإعلام في تركيا بعيدة عن هذه الحال، إذ تباينت آراء الإعلاميين والصحفيين الأتراك بشكل كبير جدًا، وهو ما سنحاول عرضه بشيء من التفصيل في الفقرات التالية.
تشبيه “فاغنر” بكيانات تركية
سعى بعض الإعلاميين الأتراك، سواء من الداعمين للحكومة التركية أو المعارضين لها، إلى تشبيه ما فعلته شركة فاغنر بسلوك بعض الكيانات الموجودة داخل تركيا، والتي حاولت سابقًا أو يشتبه البعض في احتمال محاولتها القيام بتمرد مشابه داخل تركيا.
بالنظر إلى من يتبنّى وجهة النظر هذه في صفوف المؤيدين للحكومة، نجد أنهم يحاولون تشبيه الوضع في روسيا بالمحاولة الانقلابية الفاشلة التي تمت في 2016 في تركيا على يد جماعة فتح الله غولن، ويرى المقتنعون بهذا الرأي أن فاغنر بدأت مؤخرًا بالتصرف ككيان موازٍ للدولة، مثلما فعلت جماعة غولن، وعندما وصل الأمر إلى حافة الخلاف ظهر الصراع الخفي إلى السطح وبدأ التمرد العلني على الدولة، وكدليل على هذا التشبيه أشار هؤلاء الصحفيون إلى أن أردوغان كان من أوائل من عبّر عن تضامنه مع روسيا مثلما فعل بوتين في 2016، وذلك لمعرفة أردوغان بطبيعة هذه الكيانات الموازية وطبيعة تمردها[1].
بينما في الجانب الآخر، يشبّه بعض الصحفيين المعارضين شركة فاغنر بشركة استشارات عسكرية تركية تدعى “سادات”، وهي شركة اتهمها رئيس حزب الشعب الجمهوري، كمال كلتشدار أوغلو، بأنها شركة مرتزقة تهدف إلى هدم الجمهورية التركية وإنشاء دولة خلافة عاصمتها إسطنبول ولغتها الرسمية هي اللغة العربية[2]، وحذّر هؤلاء الصحفيون من خطر تمرّد “سادات” في يوم من الأيام داخل تركيا مثلما فعلت فاغنر هذا الأسبوع في روسيا[3].
مواقف اليساريين الأتراك
تميل الأحزاب اليسارية التركية -عادةً- إلى صف روسيا في القضايا الدولية، وذلك بحجة “محاربة الإمبريالية”، وتضاربت مواقف الصحف التابعة للأحزاب اليسارية تجاه التطورات الأخيرة في روسيا بشكل واضح، وذلك لعدم وضوح المشهد بشكل كبير في اللحظات الأولى من التمرد.
وعند النظر إلى الأحزاب اليسارية التركية، فمن الأفضل البدء من حزب الوطن المعروف بتأييده الشديد المطلق للسياسات الروسية، ودعمه للتعاون مع روسيا في وجه أمريكا و”إسرائيل”، ومع بدء التمرد نشرت صحيفة “آيدنلك” التابعة للحزب مقابلة صحفية مع رئيسه دوغو بيرنتشيك، صرّح فيها بأن الحرب ضد الإمبريالية تقود دائمًا لحروب داخلية من المتعاونين معها، مضيفًا أن الحرب ضد النازية الجديدة في أوكرانيا دفعت أمريكا لإشعال حرب داخلية في روسيا بهذه الطريقة، وأشار إلى أن تركيا وروسيا تخوضان الآن حربًا واحدة ضد الإمبريالية، وحذر الحكومة التركية من التقارب مع أمريكا مرة أخرى[4].
وكمثال آخر على مواقف اليساريين الأتراك، نشرت صحيفة اليسار التابعة للحزب الشيوعي التركي مقابلة صحفية مع رئيس الحزب ياشار أكويان، قال فيها إنه لا يمكن محاربة الفاشية والإمبريالية باستخدام المرتزقة، وأشار إلى أن التمرد الأخير سببه تضارب مصالح الأوليغارشيين الروس، وقال أكويان إن الحل الوحيد لمكافحة الفاشية ولإحداث التغيير الحقيقي في روسيا هو بالعودة إلى الشعب وإنهاء نفوذ الأوليغارشيين[5].
وجهات نظر أخرى
لجأ العديد من الصحفيين الآخرين في تركيا إلى اتباع موقف تحليلي للأحداث دون الانحياز إلى طرف دون آخر، ودون اتخاذ مواقف متعجّلة، وكانت وجهة النظر المنتشرة بين هؤلاء الصحفيين هي أن هذا التمرد لم يكن أمرًا مستبعدًا، وذلك نظرًا إلى التوترات غير المعلنة التي كانت بين فاغنر والحكومة الروسية، والتي كان من بينها استخدام فاغنر في معارك خاسرة في سوريا وأوكرانيا تسببت بخسائر كبيرة في صفوف الشركة دون أن تعوض الحكومة الروسية عن هذه الخسائر، ومن ثم إبعاد المقاتلين المأجورين جزئيًا عن المعارك في أوكرانيا، ومن ثم إعلان وزارة الدفاع الروسية مؤخرًا عزمها ضم مقاتلي فاغنر إلى صفوفها في خطوة أثارت حفيظة بريغوجين[6].
من بين وجهات النظر الأخرى كان التقليل من أهمية الحدث ورؤيته مجرد تمرد صغير لعصابة من المرتزقة سيتمكن الجيش الروسي من سحقه ببساطة، ويرى المقتنعون بهذا الرأي أن بوتين تعمّد الظهور بخطاب يدعو للتوحد ضد الخونة وإظهار التمرد على أنه حدث كبير، وذلك ليوحد الجبهة الداخلية[7].
كما نظر بعض الصحفيين للحدث من زاوية مختلفة تمامًا، إذ ذكروا احتمال قيام بعض الدول الكبرى في المستقبل بمنح شركات المرتزقة، مثل فاغنر، أراضٍ واسعة يحكمونها بقوانينهم الخاصة بشكل يشابه نظام الإقطاعيات، وذلك تبعًا لتضخم قوى الشركات والشخصيات الرأسمالية وتجاوزها لقوى العديد من الدول الأخرى، وأشاروا فيها إلى خطر اعتماد الحكومات على مثل هذه الشركات، وعلى ضرورة تنمية العمل النقابي بين فئات الشعب لمكافحة تغوّل الشركات هذه[8].
خاتمة
لم تكن وجهات النظر المنشورة في بعض من وسائل الإعلام التركية مستقلة عن النظرة للوضع التركي الداخلي نفسه، إذ اتخذ كل طرف في الساحة السياسية التركية زاوية لرؤية الأحداث من منظاره الشخصي، فقام بعض المؤيدين للحكومة بتشبيه فاغنر بجماعة غولن، وقام بعض المعارضين بتشبيهها بشركة “سادات”.
وفي ظل عدم اتضاح الصورة بشكل كامل، كانت مواقف الصحف التابعة للأحزاب اليسارية المعروفة بتأييدها لروسيا متخبطة، إذ أعلن بعض هذه الصحف دعمها الكامل لبوتين في حربه ضد فاغنر، بينما أشارت الأخرى إلى خطر تعاظم علاقة شركات المرتزقة بالحكومات وعدم إمكانية محاربة الفاشية باستخدام المرتزقة.
[1] مقالة للصحفي محمود أوفور في صحيفة صباح الموالية للحكومة بعنوان “تمرد الكيان الموازي في روسيا”، 25/6/2023: https://2u.pw/kcLUkEO
بكالوريوس في قسم الفلك وعلوم الفضاء من جامعة أنقرة، مهتم بالشأن التركي وعلاقته بقضايا اللاجئين السوريين وقضايا السورية، ونشر وشارك في إعداد عدد من التقارير والمقالات حول هذا الموضوع ضمن الوحدة المجتمعية في مركز الحوار السوري