لمحة عن نشأة الاتحاد الأوروبي ومؤسساته
يُرجِع المؤرّخون نشوء فكرة الاتحاد الأوروبي إلى مؤتمر معاهدة ماستريخت “Maastricht Treaty” في هولندا عام 1992، والتي جمع من خلالها مختلف الهيئات الأوروبية في إطار واحد عرف باسم “الاتحاد الأوروبي” والذي أصبح التسمية الرسمية المتعارف عليها لتلك المجموعة منذ ذلك الحين.
لم تكن فكرة الاتحاد الأوروبي وليدة اللحظة، وإنما سبقتها عدة محاولات واقتراحات لهيئات شبيهة بالاتحاد؛ حيث تعود فكرة “الوحدة الأوروبية” لفترة قديمة من أوائل تنظيرات الفلاسفة في القرنين السابع والثامن عشر إلى النظريات المتأخرة بعد نهاية الحرب العالمية الأولى، وصولًا إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية، حيث اجتمعت الكثير من الهيئات لإعادة إعمار أوروبا ومواجهة الأزمات الاقتصادية فكانت نواة الاتحاد الحالي[1].
الاقتصاد يفتح الأبواب
يمكن تقسيم مراحل نشوء الاتحاد الأوروبي إلى مجموعة مراحل انطلقت من دوافع اقتصادية، فبعد الحرب العالمية الثانية نشأت في أوروبا فكرة إنشاء تعاون مؤسساتي بين الدول مدفوعة بالرغبة بإعادة بناء القارة وعدم قيام حرب جديدة، واقترح وزير الخارجية الفرنسي روبرت شومان – Robert Schuman تشكيل مجموعة أوروبية للحديد والفحم، كوسيلة لمنع المزيد من الحرب بين فرنسا وألمانيا، متخذاً شعار “make war not only unthinkable but materially impossible“ أي “لن نجعل من الحرب أمراً غير واردٍ فحسب، بل غير منطقي مادياً أيضاً”[2].
وفي عام 1951 تم إنشاء الجماعة الأوروبية للفحم والصلب بموافقة كل من ألمانيا فرنسا إيطاليا ودول بلجيكا وهولندا ولوكسمبورغ، بغية تنظيم إنتاجها الصناعي تحت سلطة مركزية وبهدف توسيع الاقتصاد، وزيادة فرص العمل، ورفع مستوى المعيشة داخل المجتمع[3].
وفي العام 1957 تم التوقيع على اتفاقية روما التي تأسست بموجبها المجموعة الاقتصادية الأوروبية “European Economic Community” كأول وحدة جمركية بين دول أوروبا، فكانت هاتان المجموعتان بمثابة الخطوة الأولى على طريق الوحدة الأوروبية التي انطلقت أساساً من تعاون تجاري لحقه شراكة اقتصادية وسياسية، سعت لتحقيق أهداف استراتيجية والتأسيس لشكل جديد من المواطَنة التي تضمن الحقوق الأساسية، وتدعم التقدم الاقتصادي والاجتماعي، وتقوي دور أوروبا في العالم[4].
في ذات العام أنشأت جماعة ثالثة باسم الجماعة الأوروبية للطاقة الذرية[5]، ثم انصهرت كلّ من المجموعات الثلاث عام 1965م في تشكيل نظام إداري موحد وهو “الجماعة الأوروبية”[6]، ثم خطت عملية التكامل خطوات واسعة إلى الأمام من خلال تنفيذ الاتحاد الجمركي وتوحيد الأجهزة التنفيذية للجماعات الثلاث وإرساء مبدأ وحدة الميزانية، ورفع الجمارك الداخلية بين الدول، وتطبيق تعرفة جمركية مشتركة مقابل دول العالم الثالث[7].
وفي إطار تعزيز الاستقرار النقدي فيما بين الجماعة الأوروبية أنشأ عام 1979 نظام النقد الأوروبيEMS” [8]“، الذي بُنيَ على ما كان يُعرف بـ “الثعبان النقدي” بغية تعزيز التنسيق بين سياسات إدارة التبادل في البلدان الأوروبية وضمان الاستقرار، فحُدِّد هامش تقلب من أجل إنقاذ آلية الأسعار لدعم السياسة الزراعية المشتركة[9].
تم التوقيع على اتفاق شنغن من قبل ألمانيا وفرنسا وبلجيكا وهولندا ولوكسمبورغ في العام 1985، لتيسير إلغاء عمليات المراقبة على الحدود الداخلية، مع تخطي المقاومة التي كانت تواجهها الجهود الرامية إلى تعزيز حرية حركة الأشخاص والتعاون القضائي داخل الإطار المؤسساتي للجماعة الأوروبية، وفي ديسمبر من ذات العام قرر المجلس الأوروبي في لوكسمبورغ تعديل معاهدة روما وإعطاء دفعة جديدة لعملية التكامل الأوروبي من خلال إنشاء القانون الأوروبي الموحد في 1986[10].
وبالإضافة إلى قيامه بإنجاز إصلاحات مؤسساتية هامة، سمح القانون الأوروبي الموحّد باستمرار المسار نحو استكمال السوق الموحّدة، وقام جاك ديلور – Jacques Delors، بصفته رئيساً للمفوضية الأوروبية بتقديم برنامج طموح تشريعي وعملي لضمان إزالة ما تبقى من عقبات أمام حرية حركة الأشخاص والسلع ورؤوس الأموال والخدمات، وقد مهّد إنشاء الفضاء الاقتصادي الموحد الطريق لإدخال العملة الموحدة لاحقاً.
في العام 1990 ترافقت التغييرات الكبيرة التي شهدها العالم من سقوط الاتحاد السوفييتي وانهيار جدار برلين، بخطوات جادة من بلدان “الجماعة الاقتصادية الأوروبية” نحو إنشاء نظام العملة الموحد، تلاها انعقاد المؤتمر الحكومي الدولي المعني بالاتحاد الاقتصادي والنقدي، والاتحاد السياسي الذي انتهى بتوقيع معاهدة ماستريخت – Maastricht Treaty في عام 1992م، التي غدا بتوقيعها ما كان يُعرف باسم “الجماعة الاقتصادية الأوروبية” اتحاداً أوروبياً[11].
لحقت اتفاقية ماستريخت عدة اتفاقيات للتنظيم الإداري للاتحاد أو تعديل الاتفاقيات السابقة كمعاهدتي أمستردام [12]”Treaty of Amsterdam” ونيس Treaty of Nice[13]. في هذه الأوقات كانت عمليات توسيع الحلف جارية فانضمت كل من السويد وفنلندا والنمسا عام 1995، وانضمت كل من المجر، بولونيا، جمهورية التشيك، لإستونيا، سلوفاكيا، سلوفانيا، لتوانيا، مالطا، جنوب قبرص، رومانيا، بلغاريا وآخر توسع كان بانضمام الفاتيكان عام 2013 ليصل عدد أعضاء الاتحاد إلى 27 بعد “البريكست” الذي أفضى إلىى خروج بريطانيا منه عام 2020[14].
شكل يوضح سردية تشكل الاتحاد الأوربي[15]
صناعة القرار داخل الاتحاد الأوروبي:
يعد التعاون بين حكومات الدول الأعضاء حجر الزاوية الحاكم لطريقة إدارة الاتحاد، أما المؤسسات الأخرى التي ينطوي عليها الاتحاد -كما سنأتي على ذكره- فلها أدوار ثانوية ومن أهم هذه المؤسسات.
1- البرلمان الأوروبي: وهو -بحسب بعض المختصين- من أهم مؤسسات الاتحاد الأوروبي، لأنه يمثل مواطني الاتحاد وهو الهيئة الوحيدة المنتخبة مباشرة لمدة 5 سنوات، وقد حوّلت معاهدتا ماستريخت وأمستردام البرلمان إلى مؤسسة تشريعية تقوم بدور مشابه لدور البرلمانات الوطنية[16]، ويصوِّت
أعضاؤه حسب المجموعة الحزبية[17] التي ينتمون إليها لا حسب الدولة[18]، ويضطلع البرلمان برصد سياسات الاتحاد وإقرار الميزانية وتقديم التوصيات إلى مجلس الاتحاد الأوروبي وهيئة العمل الخارجي الأوروبي[19]، وتُعتبر المفوضية الأوروبية هي الجهاز التنفيذي للاتحاد.
2- المجلس والمجلس الأوروبي: يتألف المجلس من وزراء يمثلون الدول الأعضاء، ويمثل رؤساء الدول أو الحكومات بلادهم في المجلس الأوروبي، وهو أهم جهاز لاتخاذ القرارات في الاتحاد، ويتكون مجلس الاتحاد من اجتماع ممثلي أعضائه الدوري على مستوى الوزراء. ويجتمع مجلس الاتحاد حسب المطروح على جدول، وأبرز مهامه:
- تنسيق السياسات الاقتصادية ما بين الدول الأعضاء.
- إبرام الاتفاقيات مع دولة أو مجموعة دول أو منظمات دولية نيابة عن الاتحاد الأوروبي.
- الاشتراك مع البرلمان في ممارسة السلطة المالية وميزانية الاتحاد.
- اتخاذ القرارات التطبيقية للسياسة الخارجية والأمنية العامة، وذلك على أساس التعليمات العامّة المتخذة بالمجلس الأوروبي.
- تنسيق نشاطات الدول الأعضاء، ويتّخذ الإجراءات فيما يتعلق بالشرطة والتعاون القضائي في الأمور الإجرامية[20].
3- المفوضية الأوروبية: تعمل المفوضية الأوروبية بصلاحيات واسعة أعطتها إياها معاهدة روما عام 1957، وتعمل المفوضية الأوروبية بصفتها السلطة التنفيذية للاتحاد الأوروبي وتضطلع بأربعة أدوار رئيسية:
- الدور التشريعي باقتراح التشريعات على البرلمان والمجلس.
- دور التنفيذ بوضع سياسات الاتحاد الأوروبي موضع التنفيذ.
- الدور القانوني بتطبيق قانون الاتحاد الأوروبي بالاشتراك مع محكمة العدل.
- الدور التمثيلي بتمثيل الاتحاد الأوروبي على المستوى الدولي[21].
فيما يطرح مختصون آخرون أن المفوضية في ظل حقها في المبادرة التشريعية ووظائفها في تنفيذ سياسة الاتحاد، وبوصفها رقيباً على الاتحاد، غدت أكبر كثيراً من مجرد أمانة عامة لمنظمة دولية[22].
وعملت معاهدة روما ضمنيّاً بالتمييز بين نوعين من قوانين الاتحاد أولهما اللائحة، وهي ملزمة بأكملها للدول الأعضاء كافة، والثاني التوجيه ولا يكون ملزماً إلا من حيث “النتيجة المراد تحقيقها”، مع ترك كل دولة لتختار الشكل والأساليب والأدوات، لكن هذا لم يطبق إلا جزئياً، فقد صدرت توجيهات على نحو مفصَّل لا يترك للدولة أي مساحة للاختيار أو الابتداع[23].
4- محكمة العدل الأوربية: وهي جهاز قضائي يشرف على احترام التشريعات والقوانين الخاصة بالاتحاد، وأهم مهامها:
- تفسير الاتفاقيات والمعاهدات الدولية التي يبرمها الاتحاد الأوروبي.
- الفصل في المنازعات بين الدول الأعضاء حول تفسير القوانين والمعاهدات والاتفاقيات ذات الصلة.
- الفصل في المسائل المرفوعة إليها من المحاكم الوطنية وتحديد القوانين الواجبة التطبيق.
- تختص محكمة العدل الأوروبية كذلك بالفصل في كل الطعون المقدمة من طرف البرلمان الأوروبي ومجلس المحاسبة والبنك المركزي الأوروبي، كما تختص بالفصل في الطعون التي يتقدم بها الأشخاص الطبيعيون أو المعنويون[24].
بالإضافة لغير ذلك من المؤسسات المالية كمحكمة مراقبة الحسابات والبنك المركزي الأوروبي وبنك الاستثمار الأوروبي.
الفوائد التي جنتها الدول الأوروبية من مثل هذا الاتحاد:
حققت الدول الأوروبية نتيجة هذا النمط من العمل والاتحادات مكاسب متنوعة يمكن إجمالها بما يلي:
1- السوق الموحَّد: تستفيد اقتصادات الاتحاد الأوروبي من التكامل الاقتصادي، مما يؤدي إلى ارتفاع التجارة داخل الاتحاد الأوروبي والمزيد من المنافسة. السوق الموحدة هي منطقة اقتصادية متكاملة مفتوحة بشكل غير تمييزي لجميع القطاعات والأفراد، على عكس أي اتفاقية تجارة حرة أخرى.
الناتج المحلي الخاص بكل دولة من الدول الأعضاء[25]
2- العمل المشترك بشأن القضايا العابرة للحدود: يسمح الاتحاد الأوروبي للدول الأعضاء بمعالجة القضايا العابرة للحدود بشكل مشترك. هذا يتجنب تجزئة الاستجابات ويُحسّن كفاءة الاتصالات والعمل الدولي، مثل الإرهاب والاتجار وغسيل الأموال ومشاكل المناخ وغيرها[26].
تتمثل الفائدة الرئيسية من هذا الاتحاد في تحقيق مكاسب كبيرة وإيجابية، مع زيادة بنسبة 12٪ تقريباً في نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي. على الرغم من الاختلافات الجوهرية بين البلدان، حيث إن هناك مؤشرات واضحة على أن مزايا عضوية الاتحاد الأوروبي فاقت التكاليف بشكل كبير في جميع الدول الأوروبية (باستثناء اليونان)[27].