المنظمات غير الحكومية السورية وضرورة الالتزام الطوعي بمبادئ الحوكمة
شهدت سوريا منذ انطلاق الثورة السورية نمواً كبيراً في القطاع الثالث بكل مكوناته بما فيها المنظمات غير الحكومية بمختلف تنوعاتها، وهو ما يعتبر أمراً إيجابياً للعديد من الأسباب منها: عودة الحيوية للمجتمع المدني في سوريا بعد سنوات طويلة من التصحر بفعل النظام الاستبدادي والقبضة الأمنية، وفاعلية المشاركة المجتمعية في الشأن العام، إلى جانب الاستجابة لحاجات المجتمع السوري المتنوعة في ظل انهيار المؤسسات العامة، وما استجد على الشعب السوري من احتياجات طارئة.
لم يخضع القطاع الثالث وتحديداً المنظمات غير الحكومية في مناطق خارج سيطرة نظام الأسد لأي تنظيم قانوني واضح وشامل، وهذا بدوره كان ناتجاً عن أسباب موضوعية متعددة، منها إشكالية الإرث القانوني السوري في هذا المجال متمثلاً بالقانون رقم 93 لعام 1958م، والذي تضمن مخالفات جسيمة وفادحة لأبسط ضمانات حرية المنظمات غير الحكومية واستقلالها، والتي هبطت بأحد أبرز أوجه نشاط المجتمع المدني في سوريا إلى القاع عبر إخضاع هذه الهيئات والمؤسسات في حال وجودها لتدخلات صارمة من قبل أجهزة الدولة الأمنية.
في الجانب المعياري، إلى جانب القواعد القانونية الخاصة بالقطاع الثالث، والتي تشمل تقليدياً مجموعة من القواعد الناظمة للتأسيس والتسجيل والتمويل والنشاط والحل …إلخ، ثمة نوع آخر من القواعد الداعمة التي تدخل تحت مفهوم الحوكمة الذي يعرف عادة بأنه: “نظام للرقابة والتوجيه على المستوى المؤسسي يحدد المسؤوليات والحقوق والعلاقات الناظمة مع جميع الفئات المعنية، ويوضح القواعد والإجراءات اللازمة لصنع القرارات الرشيدة المتعلقة بعمل المنظمات والمؤسسات”. حيث يقوم هذا المفهوم على مجموعة من المبادئ الرئيسة: من أبرزها المشاركة والشفافية والمساءلة وسيادة القانون ومكافحة الفساد.
عالمياً قامت العديد من الدول بحوكمة المنظمات غير الحكومية لأسباب متعددة؛ منها على سبيل المثال النمو السريع لهذا القطاع في دول العالم ككل، وتزايد حجم التمويل المدفوع لها، وتعاظم نفوذه وتأثيره في السياسات العامة للدول، وانتشار مخاطر الفساد والجريمة المنظمة بمختلف صورها تحت عباءة العمل الإنساني وقناع النشاط المدني، حيث كشفت وسائل الإعلام مراراً عـن فضائـح احتيـال مالــي أو ســوء أمانــة ارتكبهــا موظفــون يعملــون لحســاب أبــرز المنظمــات غيــر الحكوميــة بما فيها الدولية، حيث أشارت بعض تقارير المراقبة التي أجرتها عدة مؤسسات دولية إلى قيام بعض المنظمات غير الحكومية الدولية الخاضعة لهذه الرقابة بصرف أكثر من 60% من الميزانية المرصودة لمشروع محدد على نفسها، فيما يحصل المستهدفون من المشروع على الفتات.
في الواقع السوري ما تزال قضية الالتزام بمبادئ الحوكمة محل بحث ونقاش، بين وجهتي نظر؛ الأولى تراه مجرد ترفٍ فكري أو انسياق نحو تأييد المفاهيم الجديدة بغض النظر عن إمكانية تطبيقها في سياقات محددة، والثانية تعتبره أمراً مهماً وحتمياً لسد مجموعة من الفجوات المستجدة في هذا القطاع.
مع غياب التنظيم القانوني الملزم والشامل والذي يضمن حوكمة المنظمات غير الحكومية ويحافظ على استقلالها، تصبح القناعة الذاتية للمنظمات السورية عاملاً حاسماً ومهماً في هذا الصدد، ونعتقد هنا أن الالتزام بمبادئ الحوكمة سيحقق مجموعة من المكاسب أو الفوائد الرئيسية على مستوى المنظمة نفسها وعلى المستوى المجتمعي ككل.
على صعيد المنظمة الذاتي، سيساهم تطبيق مبادئ الحوكمة في كسب “الموثوقية” متمثلة في ثقة أصحاب المصلحة الذين يشكلون قائمة واسعة من داخل المؤسسة كالمتطوعين ومجلس الإدارة والجهاز التنفيذي، أو من خارجها كالمستفيدين والمانحين والسلطات المحلية، فعلى سبيل المثال سيساهم هذا الالتزام في تغيير الصورة الذهنية للمواطنين السوريين عن المنظمات، إذ تشير دراسة سابقة لمركز الحوار السوري إلى أن نسبة 88% ممن استطلعت آراؤهم ترى أن المنظمات تعاني من فساد مالي وإداري، وأن ثلثي الآراء ترى أن المنظمات تختار كوادرها بناء على معايير غير سليمة كالعائلية والمناطقية بعيداً عن الكفاءة، وليست عادلة في اختيار عينة المستفيدين.
كما سيسهم الالتزام بمبادئ الحوكمة في تحسين نمط العلاقة مع الجهات المانحة واستدامتها، فهذه الأخيرة ستجد أن هذه الفرق والمنظمات جديرة بالتعامل مجدداً، أو توسيع الشراكات القائمة؛ مما يعني إيجاد خطوط واضحة للعلاقات والمسؤوليات والواجبات داخل المنظمة، ويحقق جودة وفعالية في نشاطها وأعمالها، وهذا سيحقق جانباً من استدامة المنظمة ونموها بشكل تدريجي وسليم ويجنبها مخاطر الاندثار والتفكك، إذ تشكل مبادئ الحوكمة محاور رئيسية في مؤشرات استدامة المنظمات غير الحكومية وفق العديد من الدراسات ومنها تقارير الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID).
كما سيجنب هذا الالتزام المنظمات من مواجهة تحديات داخلية عديدة كالفساد وسوء تنفيذ الأنشطة، أو حتى الإساءة إلى الجمهور أو التعرض للاحتيال وكل ذلك قد يعرضها إلى مشاكل قانونية ويؤدي إلى الإضرار بسمعتها والتي ستنعكس على استمراريتها وهو ما يعني أن تطبيق الحوكمة سيعزز ما يسمى بالحماية لديها، وهو ما تؤكده العديد من المؤسسات والهيئات الدولية ومنها برنامج الأمم المتحدة الإنمائي.
وبشكل عام سيساعدها هذا التطبيق بطبيعة الحال للاستعداد للمتطلبات التي ستفرضها معايير الامتثال والشفافية والسلامة المالية وغيرها من اللوائح العامة التي تطبق في كل الدول على المنظمات وستطبق في سوريا في مرحلة ما.
أما مجتمعياً فمن البديهي القول بأن الأثر المجتمعي والدور الذي وجدت من أجله هذه المنظمات ستتحقق بشكل أفضل مع التزام هذه المنظمات بمبادئ الحوكمة، إذ كيف يمكن تصور أن يكون دور المنظمات فاعلاً في مجال مناصرة حقوق الإنسان أو تعزيز سيادة القانون إذا لم تلتزم المنظمة بذلك أصلاً.
كما أن سوريا التي تتطلع إلى الخلاص من الفساد والمحسوبيات ومخالفة القانون والآفات المجتمعية الأخرى كالتعصب والانغلاق و “المافيوية”، وتطمح إلى إرساء قيم أساسية كالحوار والانفتاح والشراكة والتعاون وتفعيل الاهتمام في الشأن العام وتفعيل الأدوار والطاقات والإبداع، تحتاج من أجل كل ذلك إلى رافعة حوكمية – إن صح التعبير- بما تحملها الأخيرة من قيم المشاركة والشفافية والمساءلة وسيادة القانون ومكافحة الفساد.
باحث مساعد في وحدة التوافق والهوية المشتركة يحمل إجازة في الحقوق وحاصل على شهادة الماجستير في القانون العام، ناشط في المجتمع المدني والمجال الحقوقي وقدم عدداً من البرامج التدريبية