من البوابة “الإنسانية”.. رحلة التطبيع الإقليمي مع مافيا الإبادة نحو محطات جديدة
في السنوات الأخيرة بات الملف الإنساني بمضامينه المختلفة خصوصاً قضية المساعدات واللاجئين؛ ذا أولوية لدى الدول المهتمة بالقضية السورية، حيث أصبح محركاً فعلياً لسياساتها وسلوكها الخاص بالقضية السورية على الرغم من أن ذلك يبدو من حيث المبدأ “إنسانياً” بل و”منطقياً” أيضاً، إلا أن قراءة متأنّية في هذا المسار وأسسه وغاياته قد تظهر أن هذا التركيز جاء على قاعدة “كلام حق أُريد به باطل”، وأنه استُخدم تدريجياً كذريعة لتعويم نظام الأسد الذي يعدّ المسؤول الرئيس عن الكارثة الإنسانية في سوريا، وعن آلاف جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية بحق السوريين، بما فيها استخدامه السلاح الكيماوي.
على الرغم من تأكيد قرار مجلس الأمن 2254 على القيام بعدة إجراءات تنفيذية مرتبطة بالملف الإنساني مثل إطلاق سراح المعتقلين وتسهيل دخول المساعدات الإنسانية وتأمين عودة آمنة وطوعية للاجئين، بما يعنيه ذلك من أن التفاوض يفترض أن يكون على آلية تنفيذ هذه البنود لا عليها ذاتها، وعلى افتراض أولويتها على غيرها من البنود، إلا أن أياً من ذلك لم يحدث، ليصبح التفاوض عليها ذاتها ومن دون أن يكون لها أية أولوية، في مسايرة واضحة للرؤية الروسية “للحل في سوريا”، التي تقوم على إجراءات ترقيعية شكلية تحافظ على نظام الأسد وتعومه.
وفق هذه المقاربة، وجد الروس في الملف الإنساني وسيلة مناسبة لتحقيق رؤيتهم عبر جعله ملفاً تفاوضياً، ومحطاً للابتزاز السياسي، وهذا ما ظهر بشكل واضح في ملف إدخال المساعدات الإنسانية عبر الحدود الذي أضحى محطة سنويّة أو نصف سنوية لإظهار المحاولات الروسية لابتزاز المجتمع.
لم يقف الأمر على روسيا فحسب في توظيف الملف الإنساني سياسياً، بل انسحب الأمر على بعض الدول العربية التي تحجّجت بضرورة تخفيف المعاناة الإنسانية التي يمر بها الإنسان السوري لتبرير خطواتها في التطبيع مع نظام الأسد الذي وجدها فرصة مناسبة لتعويم نفسه، وتحصيل مكاسب سياسية واقتصادية مقابل القيام بما يفترض أنه واجب عليه من الناحية الإنسانية.
هذا المسار السابق في رحلة التطبيع الإقليمي مع نظام الأسد بغض النظر عن المنطلقات التي تم استحضارها والغايات الحقيقية منه تعطّلت غير مرة؛ حيث لم يحقق التطبيع جزءاً من أهدافه في فك العزلة الاقتصادية عن نظام الأسد، واستعادة الأخيرة من الحضن الإيراني.
أتى “زلزال القرن” مؤخراً حاملاً في طياته إلى الواجهة مجدداً الملف الإنساني في سوريا، ورغم أحقية الحديث عن الكارثة الإنسانية وعن حاجة جميع السوريين إلى المساعدات وتخفيف حدة الظروف المعيشية القاسية، إلا أن التعاطي مع هذا البعد الإنساني جاء ليحيي مجدداً مسار التطبيع مع نظام الأسد؛ حيث منح الحدث، ومن دون مقدمات الدول العربية بما فيها المترددة مجالاً للتقارب الرسمي مع نظام الأسد.
سريعاً كانت الدول الأقرب لنظام الأسد هي الأعلى صوتاً والأسرع مبادرة لتقديم المساعدات المختلفة وإرسال فرق الإنقاذ والكوادر الإعلامية؛ فقد هرع الأردن للقيام بزيارة رسمية عبر وزير خارجيتها إلى سوريا، في حين قامت تونس برفع مستوى التمثيل الدبلوماسي بسوريا في خطوة تمهّد لإعادة العلاقات بشكل كامل؛ ليكتمل المشهد بما تردد عن إمكانية تقدم المملكة العربية السعودية بخطوة نحو التطبيع مع نظام الأسد، وهي التي كانت أحد أهم معرقلي انفتاح الإقليم عليه، بدعوى أن “هناك إجماعاً عربياً على أن الوضع الراهن في سوريا يجب ألّا يستمر، ووجوب معالجة وضع اللاجئين السوريين في الخارج، والجانب الإنساني في الداخل”.
أما نظام الأسد الذي يُراد الحوار معه “لإيجاد حل إنساني وأمني” فلم يتقدم بأية خطوة تجاه ما تأمله منه الدول المطبعة، حيث قامت مؤسساته الأمنية وميليشياته المختلفة بالسيطرة على غالبية المساعدات المقدمة وفق ما ذكرته الكثير من المصادر بما فيها صحف غربية وشهادات نشطاء موالين للنظام -سرعان ما تم اعتقالهم في حلب واللاذقية – وعبر مجموعة الحقائق على الأرض كعمليات بيع المساعدات، والقيام بممارسة الابتزاز السياسي في ملف لإدخال المساعدات العاجلة عبر المعابر الحدودية إلى مناطق شمال غرب سوريا.
كذلك لم تتراجع الميليشيات الإيرانية إلى الخلف، حيث استمرت بنقل شحنات الأسلحة تحت ستار المساعدات، ونشط رجالاتها العسكريون وأذرعها المدنية في المجتمع السوري لتبقى وسط المشهد، وهو ما يعني أن التسارع في التقدم نحو نظام الأسد تحت غطاء التركيز على البعد الإنساني قوبل بممارسات مباشرة تؤكد فشله فضلاً عن فقدانه للبعد الأخلاقي بوصفه مكافأة للمجرم بدلاً من محاسبته.
يبدو من السياق العام أن رحلة التطبيع الإقليمي مع نظام الأسد ماضية نحو محطات جديدة، بيد أن مسارها لن يكون يسيراً ولا وصولها لبغيتها حتمياً، وذلك بفعل عوامل دولية عديدة في مقدمتها الموقف الغربي، حيث تبدو أهم دول الاتحاد الأوروبي بالإضافة لبريطانيا والولايات المتحدة مستمرة باتخاذ مواقف متحفظة تجاه التطبيع مع نظام الأسد.
تظهر الهرولة للتواصل مع نظام الأسد بعد وجود استثناءات أمريكية عن عقوبات قانون “قيصر” أنه ثمة هوامش محددة للمنظومة الإقليمية، ولكن قد يكون من الصعب توسيعها، وفي وقت ازدادت فيه ملامح الفاعلية الأمريكية في الملف السوري سواء بالنشاط الميداني أو القانوني المتجدد مع قانون مكافحة تجارة المخدرات “كبتاغون الأسد”، وهو ما يعني بدوره وجود فرص عديدة أمام قوى الثورة والمعارضة دولياً لعرقلة ملف التطبيع وتصويب مسار العملية السياسية.
باحث مساعد في وحدة التوافق والهوية المشتركة يحمل إجازة في الحقوق وحاصل على شهادة الماجستير في القانون العام، ناشط في المجتمع المدني والمجال الحقوقي وقدم عدداً من البرامج التدريبية