ما خيارات السوريين في المناطق المحررة لحفظ مكاسب الثورة وإبعاد شبح التطبيع؟
لا تزال تبعات التصريحات التركية الأخيرة تلقي بظلالها على الفضاء العام لدى قطاع عريض من السوريين، حيث ترافق ذلك بحراك شعبي في المناطق المحررة كان في مجمله رافضاً لها، ومؤكداً في الوقت نفسه على التمسك بمبادئ الثورة السورية، المتضمنة رفض أي مساع أو محاولات لإعادة تعويم نظام الأسد، وضرورة استعادة القرار الوطني مع الحفاظ على حلفاء الثورة والداعمين لها، والدعوة لتطبيق القرارات الدولية المتعلقة بسوريا. وهو ما دفع وزير الخارجية التركي نفسه للتأكيد أن تصريحاته وسياقها حول “المصالحة” أو كما عُدلت لاحقا لتصبح “اتفاقا” بين النظام السوري والمعارضة، لا تختلف عما يتم العمل عليه ضمن مسارات الحل السياسي، ومضامين القرارات الدولية التي تشير إلى ضرورة التوصل لحل سياسي يضمن الاستقرار والسلام في سوريا، وهو ما يستوجب -بحسب تعبيره- “تفاهماً” بين النظام والمعارضة. وتبع ذلك تأكيد وزير الداخلية التركي سليمان صويلو، أن بلاده “لم ولن تترك البشر الذين يئنون من ظلم النظام السوري، وحزب الاتحاد الديمقراطي، وحيدين”.
إذا كان الحراك الشعبي الذي حصل مؤخراً معبراً في إحدى صوره عن تدني مستويات الرضى عن طريقة إدارة المناطق المحررة والمؤسسات الخدمية والعسكرية والأمنية الموجودة في مناطق عفرين وإعزاز والباب وجرابلس وغيرها من المناطق التي يرى الشارع أنها أضحت تحت الإدارة التركية المباشرة، فإنه كذلك يوضح خشية الشارع السوري في هذه المناطق من صفقات إقليمية أو دولية محتملة خاصة مع موجة التطبيع الأخيرة مع نظام الأسد ومحاولات تعويمه، والمتغيرات الدولية التي طرأت بعد الحرب الأوكرانية، واقتراب موعد الانتخابات التركية التي يكاد يصبح فيها الملف السوري قطب الرحى بين الأحزاب التركية، والتي قد تفرض على الحكومة التركية ليونة أكبر في تعاطيها مع نظام الأسد، خصوصاً في ظل جملة تصريحات سابقة منها استئناف الاتصالات الاستخباراتية التركية معه، وإمكانية دعمه سياسياً حال مشاركته في إخراج الإرهابيين.
في ضوء ذلك، ومع التسليم أن السوريين في المناطق المحررة تحكمهم مصالحهم الوطنية كموجه أول لسلوكهم وتفاعلاتهم، يفترض بقوى الثورة والمعارضة العمل على توافقات من شأنها ترميم الوضع الداخلي والقفز على الخلافات في القضايا الاستراتيجية وإعادة بناء الثقة، والتركيز على الحلول الهيكلية كتشكيل هيئات وأجسام سياسية جديدة، وإعادة بناء النخب السورية، وإصلاح مؤسسات المعارضة الأمنية والعسكرية والسياسية، إضافة إلى الحلول الموضوعية من خلال التوافق على خطاب سياسي يلائم تطورات المرحلة، ويحافظ على ما تبقى من مكتسبات الثورة السورية، ويفند مخاطر التقارب مع نظام الأسد أو الانفتاح عليه على المنظومتين الإقليمية والدولية. وإلا فإن الحديث اليوم عما لا نريد، كرفض المصالحة مع نظام الأسد -رغم أهميته- لن يكون ذا تأثير إن لم يترافق مع التصريح بما نريد كالتركيز على القرار السوري المستقل وبناء نموذج حوكمي في المناطق المحررة.
كذلك يجب على الشارع السوري في المناطق المحررة إيجاد أشكال تنظيمية -ولو مؤقتة- ينخرط فيها الناشطون والنخب والهيئات الشعبية والسياسية وغيرها من القوى العاملة في الداخل بشكل رئيسي وتمتلك شعبية وقبولاً مجتمعياً، مهمتها التصدي لأية دعوات معلنة أو خفيفة تروج للمصالحة/ التسوية مع نظام الأسد بذريعة أن تركيا تخلت أو ستتخلى عن ثورة السوريين.
إلى جانب ما ذكر من المهم أيضا على قوى الثورة بمختلف تخصصاتها، العمل بشكل متوازي على فهم طبيعة المناطق المحررة وما فيها من أوراق قوة وضعف وتوظيفها لتقليل الخسائر وزيادة المكاسب من خلال دراسة الهوامش المتوفرة للمناورة ضمن الامتداد الجغرافي الحالي، وما فيه من عوامل اقتصادية وسكانية وعسكرية التي إن أحسن إدارتها يمكن أن تعود بالنفع على القضية السورية.
المظاهرات الأخيرة في الشمال المحرر لم تكن ترفا إنما جاءت لتؤكد على الرفض المطلق للتصالح مع نظام الأسد، لكن من المهم البحث عن وسائل إضافية للتعبير عن مطالب السوريين في المناطق المحررة تكون ذات نطاق جغرافي أوسع وديمومة وتتناسب مع الأوضاع الاستثنائية في تلك المناطق، كالتوقيع على العرائض الحية والالكترونية وتوجيهها إلى الدول المعنية بالملف السوري، وتنظيم وقفات احتجاجية تجمع مختلف فئات الشعب داخل المناطق المحررة وفي بلدان اللجوء حيثما تيسر ذلك، تذكر بجرائم النظام وحلفائه، إلى جانب فتح قنوات تواصل مع مراكز الضغط في دول الجوار وعلى رأسها تركيا،
ختاما ليس مطلوباً من قوى الثورة والمعارضة اليوم الوقوف وانتظار بيانات وتصريحات تبين أو تشرح مواقف الحلفاء، بقدر ما هو مطلوب منها الاستعداد للمرحلة القادمة وما ستحمله من أعباء ومتطلبات، بما فيها إمكانية تغير مواقف الدول من الثورة وانزياحها باتجاه مقاربات التصالح مع نظام الأسد.
صحفي سوري، ومنتج أخبار في قناة حلب اليوم الفضائية، وباحث مساعد في مركز الحوار السوري