تدويل القضية السورية وأثر الصراع في اوكرانيا على الملف السوري
تشكَّل المسألة السورية حالة معقّدة تلاقت فيها مصالح الأطراف الإقليمية والدولية من جهة، وتناقضت وتباينت الحسابات الخاصة لتلك الأطراف من جهات أخرى كثيرة؛ نتيجة حجم المصالح والحسابات الاستراتيجية والاقتصادية والأمنية والإيديولوجية المتداخلة لمختلف الأطراف الإقليمية والدولية المنخرطة بنسب متفاوتة ضمن المعادلة السورية، وهو ما يؤثر بشكل مباشر على مجريات الأحداث في سوريا.
وتعتبر النظرية الواقعية واحدة من أهم النظريات القادرة على تفسير السلوك السياسي في السياسة الخارجية لدولة ما و ردود أفعالها تجاه التغييرات والتحولات التي تحدث في محيطها الإقليمي والدولي، لا سيما وأنَّ هذه النظرية تولي أهمية كبيرة لمصالح الدول الوطنية والقومية في طبيعة علاقاتها مع الفواعل الدولية الأخرى تحت مظلة نظام دولي لا سلطة مركزية عليا فيه تحمي الدول والأمم من بعضها البعض، (دون أن نقلل من تأثير العوامل الأخرى؛ إيديولوجية كانت أم تاريخية وثقافية).
ومن هذا المنطلق يمكن أن نفسر سياسة القوى الإقليمية والدولية تجاه الثورة السورية وتجاه الصراع الحالي المستعر بين أقطاب متعددة في عموم الجغرافية السورية من خلال النظرية الواقعية بأشكالها المختلفة التي ترى أنَّ المصالح هي المحرّك الأساسي لسلوك الدولة؛ فبقاء نظام الأسد وحمايته من الانهيار يحفظ المصالح الاستراتيجية لبعض القوى الدولية كإيران وروسيا، وإعادة هيكلة مؤسساته أو تغيير سياساته يحفظ مصالح البعض الآخر، وهو ما دشّن معادلة سياسة قوامها الحفاظ على المصالح الاستراتيجية والتكتيكية للاعبين كثر بمصالح متباينة متضادّة وذلك عبر البوابة السورية.
وبذلك انتهت القضية السورية بتحوّلها بعد عقد من عمرها لساحة تنفيسٍ للاحتقان والاستقطاب والصراع الإقليمي ومرتكزٍ لتعزيز التموضع الإقليمي والدولي لمختلف الفواعل المتنفذة في الملف السوري؛ التي باتت تستخدم وجودها العسكري وانخراطها السياسي في الشأن السوري كورقة مساومة على ملفات أخرى أوسع وأشمل؛ جعلت سوريا ميداناً لتصفية حسابات دولية على حساب الشعب السوري وتطلعاته، وتحوّل السوريون إلى طرف ثانوي وأضعفت تأثير الفاعل المحلي (نظام الأسد وقوى الثورة والمعارضة) في عملية صنع القرار السوري لحساب القوى الدولية المتنفذة.
ويعتبر الملف النووي الإيراني والمشروع الإقليمي الإيراني مثالاً واضحاً على تداخل وتشابك الملفات الدولية مع الملف السوري وتأثر الصراع في سوريا بتفاعلات العلاقة بين القوى الدولية الفاعلة؛ التي لا يبدو أنَّها تنظر إلى الملف السوري بوصفه ملفاً مستقلاً بحدِّ ذاته؛ بل إلى كونه جزئية من جزئيات تشكّل صورة أوسع؛ إذ تحرص الولايات المتحدة على منع إيران من تحقيق تقدُّم ملحوظ على صعيد ملفها النووي، مستندةً بذلك على العقوبات الاقتصادية والضغوط السياسية والعسكرية على مختلف المؤسسات الإيرانية، وكذا “إسرائيل” التي تركّز سياستها على كيفية منع إيران من تطوير مشروعها النووي، فعملت بدورها على توحيد النشاط الدولي ضد إيران وبرنامجها النووي، ومارست مختلف الضغوطات على الإدارات الأمريكية لمنعها من تقديم تنازلات لإيران، وتهدّد بشكل مستمر باستخدام القوة العسكرية لضرب المنشآت النووية الإيرانية في حال فشلت الجهود الدبلوماسية في ردع إيران عن المضي قدماً في برنامجها النووي، وهو ما انعكس على الملف السوري بشكل أو بآخر؛ فشهدنا تغييرات وتقلبات في طريقة تعاطي الإدارة الأمريكية مع الملف السوري كتراخيها مع الخطوات التطبيعية العربية مؤخراً مع نظام الأسد، والتماهي مع فكرة “تغيير سلوك نظام الأسد” بدلاً من “رحيل الأسد/تحقيق الانتقال السياسي” الذي لعب سير العلاقة الأشمل مع إيران دوراً مهماً (وليس الوحيد) في التأثير على رؤية الولايات المتحدة و”إسرائيل” وبلورة سياساتها تجاه الصراع في سوريا.
وقبل ذلك شهدت العلاقة الروسية التركية في الملف السوري توتراً ملحوظاً تخلّله تبادل لرسائل سياسية وعسكرية وجّهها الطرفان في مناسبات مختلفة بعد التصادم غير المباشر في كلٍّ من ليبيا وفي إقليم “قره باغ” بين أرمينيا وأذربيجان، فمن جهتها كانت روسيا توجّه الرسائل التي تريد إيصالها للحكومة التركية عبر الضغط في ملف إدلب السورية، ولعل أبرز الأمثلة على هذه الرسائل الروسية تجسّد في عملية قصف مواقع تابعة “لفيلق الشام” التابع لفصائل “الجيش الوطني” الذي تشرف عليه تركيا بشكل مباشر.
علاوة على ذلك، أصبح من الواضح للعيان أنَّ روسيا تعتبر سوريا بوابة لها لإعادة تموضعها على المستوى الدولي كقوة عظمى منافسة للولايات المتحدة وتفردها في النظام الدولي، حيث سعت روسيا إلى توظيف الصراع في سوريا بوصفه ورقة تفاوضية مع الغرب والولايات المتحدة فيما يتعلق بملفات خلافية إشكالية، وتعزيز الوضع الدبلوماسي لها للتأثير في المعادلات الإقليمية والدولية؛ وهو ما كان له تداعيات أيضاً على سير علاقتها مع القوى الدولية الفاعلة وخاصة الولايات المتحدة وكان له انعكاس مهم على مسار المشهد السوري؛ بداية بالقبول الأمريكي/الغربي الضمني بالتحركات الروسية في سوريا مروراً بالتماهي مع طروحاتها ورؤيتها للحل السياسي وليس انتهاءاً بالعمل على بناء تفاهمات وإحداث تقارب وتعاون بين الولايات المتحدة وروسيا الذي جسّده الاتفاق بين الطرفين على تمرير المساعدات وقضايا أخرى.
وفي ذات السياق، يبدو أنَّ الحالة الأوكرانية ليست استثناءً من ذلك؛ فنظراً إلى تشارك الساحتين السورية والأوكرانية بالفاعلين المتنفذين وتشابك مصالحهم في كلا البلدين، وبناءً أيضاً على مواقف وتجارب سابقة كما في الحالة الأذربيجانية والليبية، يبدو أنَّ ذلك سينعكس بطبيعة الحال على قواعد الصراع في سوريا، واستخدام تلك القوى الملف السوري مجدداً كورقة شدٍّ وجذب وضغطٍ بين مساوماتهم وصراعاتهم، لا سيما في ظل لجوء مختلف الأطراف في أوكرانيا إلى تفعيل الحل الدبلوماسي وتحكيمه بدلاً من الانزلاق إلى حرب شاملة مفتوحة تهدد مصالح الجميع، مع إمكانية نشوب نزاع عسكري محدود (ربما عبر هجمات سيبرانية روسية أو عن طريق دعم روسيا القوات الانفصالية في دونباس أو ربما تكرار لسيناريو غزو جزيرة القرم) يؤدي لاحقاً إلى اتفاق دبلوماسي، خاصة وأنَّ روسيا قد اتخذت خطوات متقدمة قد لا تستطيع التراجع عنها وفرضت شروطاً لا يمكن للغرب قبولها وهو ما يجعل من الصعوبة بمكان الرجوع إلى حل دبلوماسي مباشر دون استعمال كافة الأطراف لأوراق متعددة قد يكون الملف السوري واحداً منها.
فعلى خلاف باقي الصراعات والتجاذبات الإقليمية والدولية التي خاضتها روسيا أو كانت طرفاً فاعلاً فيها خلال الآونة الأخيرة في أذربيجان وليبيا؛ تنظر روسيا فيما يبدو إلى أوكرانيا كقضية مختلفة وشديدة الحساسية والأهمية بالنسبة لها ولأمنها القومي الداخلي المباشر. لذا من المرجح أن تشهد الساحة السورية تصعيداً روسياً عسكرياً محدوداً مدعوماً بقوات نظام الأسد وإيران في إدلب ومناطق الشمال السوري لإرسال رسائل إلى تركيا والغرب مفادها إمكانية استخدامها ملف إدلب واللاجئين كورقة من أوراق المساومة في حال تطور الصراع في أوكرانيا وأخذ أبعاداً متقدمة عسكرية أو سياسية وكان لتركيا دور فاعل إلى جانب الغرب.
وقد تلجأ روسيا إلى تثبيت التهدئة في الشمال السوري بهدف عدم استفزاز تركيا ودفعها إلى تشديد موقفها مع الناتو، خصوصاً وأن تركيا قد تنحو باتجاه دعم الغرب في أوكرانيا إذا حصلت على ضمانات غربية بالمساعدة في منع هجمات نظام الأسد وروسيا في ادلب، وهو ما قد يكون في مصلحة الغرب والولايات المتحدة على وجه الخصوص من زاوية منع تدفق اللاجئين وتعزيز موقف تركيا لصالح الناتو في أوكرانيا، لاسيما وأنَّ ذلك يأتي في خضم مفاوضات فيينا حول الملف النووي الإيراني الذي يأخذ حيزاً جيداً ضمن أولويات الإدارة الأمريكية فضلاً عن تصاعد وتيرة صراعها مع الصين وانكفائها على حلحلة مشاكلها الداخلية.
ختاماً، إن تدويل وأقلمة القضية السورية جعل منها ملفاً متأزمناً حبيس نزاعات دولية وصراعات إقليمية أطالت أمد مسار الحل السياسي وبددت أمل الإسراع في إنهاء أكبر المآسي في التاريخ الحديث. ورغم كل ما سبق إلا أنَّ هناك فرصاً وجوانب إيجابية قد تنشأ من تفاعل العلاقة بين الدول الفاعلة ومن تقلبات البيئية السياسية سلباً أو إيجاباً يمكن لقوى الثورة والمعارضة السورية تلقفها واستغلالها واستثمارها بما يخدم الملف السوري بعد ترتيب أوراقها التي تبعثرت وتعزيز حضورها في المحافل السياسية والإقليمية والدولية بعد تعزيز شرعيتها الداخلية.