بين ماضي التفرقة وحاضر العنصرية.. قراءة في مخاطر استيراد سياسات نظام الأسد
عمد نظام الأسد منذ استيلائه على السلطة إلى بناء جدران شاهقة بين فئات الشعب السوري، وإلى تفريقه وتقسيمه بكل الطرق الممكنة، وعمل خلال عقود حكمه على إفساد العلاقة بين مكونات الشعب الواحد، ناشرًا ما استطاع الكراهية والحقد وانعدام الثقة بينهم، إذ سعى إلى استعداء المكونات العرقيّة والطائفية والمناطقية ضد بعضها البعض لضرب النسيج الاجتماعي السوري.
رغم ذلك، عندما قامت الثورة السورية في 2011 ملأ الثوار ساحات سوريا بشعار “الشعب السوري واحد”، والتأكيد على أن سوريا لجميع السوريين، وهبّت الكثير من المدن والقرى السورية بكل مكوناتها عربًا وأكرادًا وغيرهم من المكونات منتفضين بوجه نظام الأسد وطغيانه الذي ذاق الجميع من ويلاته لعقود، وسالت دماء الضحايا في مختلف المناطق السورية من درعا جنوباً إلى حلب شمالاً ومن القامشلي ودير الزور شرقاً إلى بانياس غرباً على يد شبيحة نظام الأسد وميليشياته.
بعد مرور سنوات على الثورة اختلفت الطرق وتفرق المجتمعون، لأسباب داخلية وخارجية، وانقسمت سوريا إلى مناطق نفوذ مختلفة تشرف عليها قوى خارجية، وتجمّد الوضع على هذا الحال منذ حوالي 5 سنوات دون أي تغيير في الخريطة أو في واقع السكان في هذه المناطق، وبدأت تتحول حدود مناطق النفوذ إلى شروخ عميقة تفصل بين أفراد الشعب الواحد.
وسط هذا الاحتقان اشتعلت وسائل التواصل الاجتماعي في الأيام القليلة الماضية بنزاع حاد بين شريحة من السوريين العرب وشريحة من السوريين الأكراد، إذ خرجت حسابات مؤيدة لـ”قسد” وبدأت بكتابة منشورات مسيئة لجميع سكان المناطق المحررة في شمال غرب سوريا، وتصفهم بـ “التطرف والتخلف والإرهاب” وغير ذلك من الأوصاف العنصرية، فيما خرجت حسابات يُؤيّد أصحابها الثورة السورية وردت بأسلوب عنصري مسيء تجاه جميع الأكراد السوريين، وانحدر مستوى النقاش بين الفريقين إلى مستويات غير منضبطة.
ولا يمكن بطبيعة الحال القول إن تلك المواقف المنتشرة على مواقع التواصل تُعبّر عن حال سكان تلك المناطق بالمجمل، فمن المعروف أن وسائل التواصل الاجتماعي تلعب دوراً في تأجيج الاحتقان والعنصرية، لكن ذلك لا يعني عدم التنبيه من مخاطر الانجرار وراء مثل تلك الخطابات وعدم الدعوة لمواجهتها، خصوصاً في حالة مثل الحالة السورية سريعة الانجذاب للخطابات الشعبويّة، كما إن انتقاد أي حالة من الانتهاكات القائمة في مناطق السيطرة يجب ألا ينجر إلى وحل العنصرية والمناطقية التي ستؤدي إلى نتيجة عكسية، وتشعل شرارة الأحقاد والعداوات بين أفراد الشعب الواحد والتي لا يمكن أن تخمد بسهولة.
عنصرية مستوردة
لم تشهد بلاد الشام في تاريخها حوادث عنصرية “شعبية” كبيرة بين العرب والأكراد، سوى حادثة القامشلي عام 2004 والتي كان نظام الأسد خلف تأجيجها، وذلك بعكس دول أخرى شهدت مجازر كبيرة لأسباب عنصرية متجذرة ومتأصلة بين شعوبها، ولم يعرف بين عامة العرب السوريين وجود حساسية ضد اللغة الكردية والثقافة الكردية والأعياد الكردية، مثلما لم يكن لدى عامة الأكراد السوريين موقف سلبي عنصري تجاه الطرف الآخر، وإن كانت سياسة نظام الأسد العنصرية الظالمة تجاه الأكراد جزءًا من نهجه القمعي الذي شمل جميع أفراد الشعب السوري بكل مكوناته، والتي لم يكن يرضى بها الشعب السوري ويرفضها تمامًا.
ومن خلال ملاحظة الكثير من المنشورات العنصرية، بدا واضحًا أن محتوى الكراهية المنتشر حاليًا غريب على الشعب السوري ومستورد من الدول المجاورة، إذ استعان كثير منهم بمنشورات نشرتها حسابات عنصرية تنشط ببث الكراهية ضد العرب والأكراد، كما أن جزءًا من أنصار “قسد” يتعاملون مع القضية الكردية في سوريا بنفس طريقة تعامل أكراد تركيا مع قضيتهم، ويتهمون العرب السوريين بنفس الاتهامات التي يسوقها أكراد تركيا تجاه الأتراك القوميين، رغم اختلاف التاريخ والظروف، وهذا يشير إلى سيطرة سردية أتباع مليشيا حزب العمال الكردستاني عند أتباع “قسد”، فضلاً عن تجنيد “قسد” جيشاً إلكترونياً يعمل على نشر بذور التفرقة والكراهية.
إن وصف فئة من مؤيدي “قسد” جميع سكان المناطق المحررة، أو جميع العرب السنة السوريين بـ “الإرهاب والتطرف والتخلف”، ورد بعض من الطرف الآخر على هذه الإساءات بإساءات عنصرية مماثلة تشمل جميع الأكراد هو فعل مشين يخلق كراهية لم تكن موجودة بين العرب والأكراد، وهذه الكراهية إن طالت وكبرت -لا قدر الله- قد تستمر لعقود طويلة حتى بعد انتهاء القوى الحاكمة الموجودة اليوم، وستكون لها عواقب وخيمة لا يمكن تلافيها في المستقبل.
الكراهية ليست حلًا
كان هتاف “الشعب السوري واحد” من أكثر الهتافات تكرارًا في مظاهرات الثورة السورية، وهذا الهتاف الجامع يعد خنجرًا في قلب سياسة نظام الأسد القائمة على التفرقة ونشر الكراهية، ونحن اليوم بحاجة لعدم التخلي عن هذا الشعار والتمسك به وإعادة هذه الرؤية الوطنية إلى الواجهة.
إن مطالب المواطنين الأكراد المحقة، من الاعتراف بلغتهم وثقافتهم وبحقهم في المشاركة العادلة في الحياة السياسية، لا يمكن تحقيقها بالعنصرية والعداوة ضد أكبر مكون عرقي في البلاد والدفع باتجاه الانفصال الكامل، فهذه الخطوات لن تخدم الأكراد، إذ ستجعلهم يكونون جزءًا من كيان هش لا يملك مقومات الحياة، ومحاطاً بأعداء قديمين وآخرين جدداً تشربّوا مثل تلك الأفكار العنصرية.
أما بالنظر للطرف الآخر، فإنه لا يمكن تحقيق ما يرنون إليه، من إسقاط نظام الأسد ومحاربة الأفكار الانفصالية والحفاظ على وحدة سوريا وبناء دولة حرية وعدل تحترم مواطنيها وتحفظ حقوقهم، عبر العنصرية واستعداء ثاني أكبر مكون عرقي في البلاد، إذ إن استعداءه والسخرية من عاداته وثقافته ولغته ستدفع به إلى أحضان التنظيمات الانفصالية، وتزيد من كراهيته وعداوته تجاه العرب السوريين، وتتسبب بجروح لا تندمل بسهولة.
أصل البلاء الذي أنهك السوريين يتمثّل بنظام الأسد ومليشياته، فضلاً عن القوات الأجنبية التي وقفت بجانبه وما نجم عنها من تدخلاتٍ أخرى في سوريا، كل هؤلاء لن يبقوا في بلادنا للأبد، لكن شعوب هذه المنطقة باقية فيها ما شاء الله، ولا طريق أمام شعوب المنطقة للاستقرار والسلام إلا بقبول الآخر واحترامه والتعايش معه على أسس الأخوّة الإنسانية والدينية والوطنية، وإلا فإن الكراهية إذا ترسّخت ستجعل البلاد تستمر بالدوران في دوامة من الصراعات والنزاعات التي لا تنتهي.
بكالوريوس في قسم الفلك وعلوم الفضاء من جامعة أنقرة، مهتم بالشأن التركي وعلاقته بقضايا اللاجئين السوريين وقضايا السورية، ونشر وشارك في إعداد عدد من التقارير والمقالات حول هذا الموضوع ضمن الوحدة المجتمعية في مركز الحوار السوري