
الشرخ الطلابي في عهد النظام البائد.. كيف نتجاوز الانقسامات في سوريا الجديدة؟
منذ بداية الثورة السورية، بتنا نعيش لحظة فارقة في صناعة تاريخنا الذي نريد، لحظة انتفض فيها الشعب مطالباً بحريته وكرامته؛ إذ لم يكن هدفنا إسقاط النظام فحسب، بل كان مشروعنا أعمق وأسمى لبناء وطنٍ جديد، يسوده العدل والمساواة، وطنٌ يتجاوز الانقسامات الإثنية والعرقية والمذهبية التي كرّسها نظام الحكم البائد لعقود طويلة، مستخدماً أسلوبه الاستخباراتي المعتاد، وعبر أدواته القمعية الأكثر سوءاً في تاريخ البشرية الحديث.
لكن، وعلى الرغم من تضحياتنا الجسيمة والآمال العظيمة التي حملناها، فإن الشرخ المجتمعي، سواء في المناطق التي كانت خاضعة للنظام البائد أو في المناطق المحررة، أصبح يشكّل أحد أخطر التحديات التي تواجه مستقبل سوريا.
لقد عمد النظام إلى تجييش المجتمع السوري على أسس طائفية ومناطقية بشكل منهجي ومدروس، مستخدماً أدوات إعلامية وسياسية وأمنية هدفها تكريس الانقسام وزرع الشك بين أبناء الوطن الواحد، وقد تسللت هذه السياسات إلى مختلف مؤسسات الدولة، وعلى رأسها الجامعات السورية، حيث يُفترض أن تكون الحاضنة للفكر النقدي والوعي الوطني، ورغم أن هذه الظواهر لم تكن عامة في جميع الجامعات، إلا أن بعضها شهد توترات وانقسامات بين الطلبة على خلفيات مناطقية أو طائفية، ما أسهم في خلق بيئة حاضنة للتمييز والاستقطاب.
وقد استغل النظام ذلك عبر بعض الأطراف الطلابية التابعة له لتأجيج الانقسام والتحريض، فباتت الجامعات بمكوناتها الطلابية تعكس الصراع بين من يسعى للتحرُّر من قبضة النظام البائد، ومن يقف في صفّه متمسكاً بوجوده، وتعدّى الأمر في بعض الجامعات من أن يكون الوعي والحوار هما السبيل للتغيير المنشود، إذ انقسم الطلبة بين فئة ارتبطت بالسلطة السياسية الحاكمة آنذاك ـــ المتمثلة بنظام بشار الأسد البائد ـــ واستفادت من امتيازاتها المرتبطة بالانتماء لتلك المنظومة، وبين فئة قدّمت التضحيات في سبيل بناء مستقبل حر يليق بتطلعات الشعب السوري.
ولعل أبرز الأدوات التي استخدمها النظام لترسيخ هذا الشرخ الطلابي داخل الوسط الجامعي، هو “الاتحاد الوطني لطلبة سورية” والهيئات الطلابية التابعة له في الكليات والمعاهد، وهو تنظيم نقابي مركزي واحد تتفرع عنه تشكيلات طلابية، يُفترض أن يكون كياناً مستقلاً يمثل مصالح الطلاب، إلا أنه تحوّل إلى ذراع أمنية بيد النظام، يُستعمل لتثبيت سطوته ومراقبة الأنشطة الطلابية وتوجيه الحياة الجامعية لخدمة أهدافه.
لم يكن هذا الاتحاد سوى أداة لإعادة إنتاج الخوف داخل الحرم الجامعي؛ إذ قام أعضاؤه في كثير من الحالات بتوجيه الاتهامات وتنظيم حملات تشهير ضد طلاب عبّروا عن رأيهم، ففي جامعة دمشق مثلًا، سُجّلت حالات أبلغ فيها أعضاء الاتحاد عن طلاب شاركوا في وقفات سلمية أو علقوا منشورات تطالب بالحرية، فتم اعتقالهم من داخل الجامعة، وكذلك الأمر ذاته في جامعة حلب، حيث جرى التنسيق بين أعضاء الاتحاد والأجهزة الأمنية لاعتقال طلاب من كليات الطب والهندسة بسبب منشورات على وسائل التواصل الاجتماعي.
إن الشرخ المجتمعي الذي خلّفته هذه السياسات لم يقتصر على خلافات فكرية أو سياسية، بل أنتج آثاراً ملموسة على العلاقات الطلابية، تمثلت في تراجع الثقة المتبادلة، وتوسّع دائرة الاشتباه بكل مخالف لخطاب النظام، وتضييق مساحات الاختلاط والتعاون بين الطلبة، وبدلاً من أن تكون الجامعات فضاءً للتلاقي والحوار، أصبحت بيئة يسودها الخوف والتوجّس، وتُكرّس فيها ثقافة الانغلاق والتمييز.
بعد إسقاط النظام: ازدياد الشرخ بين الطلاب وكيفية تجاوزه
ازداد الشرخ بين الطلاب ببعض الجامعات بعد إسقاط النظام، حيث تم استغلال الظروف الجديدة لزيادة الانقسامات على أساس طائفي ومناطقي. هذه الانقسامات لم تكن مجرد اختلافات فكرية مشروعة، بل تحولت في بعض الحالات إلى ممارسات مؤثرة على العلاقات الطلابية اليومية، حدّت من فرص التعاون، وهددت الروح الثورية التي نؤمن بها.
لم تكن هذه الانقسامات مجرد نتيجة طبيعية لتنوع الخلفيات، بل ساهمت في تغذيتها أطراف ذات خطاب ديني وطائفي محدد، استغل فيها مكانته الخاصة لدى أبناء طائفته والفعاليات الطلابية، لنشر روايات تعزز الانتماء الضيق، وتتهم الآخرين لمجرد اختلافهم في الرأي أو الهوية.
وفي هذا السياق، برزت بعض الشخصيات المحسوبة على تيارات دينية من طائفة معينة بلعب دور سلبي في تعزيز هذه الانقسامات، حيث تم رصد سلوكيات واضحة تمثلت في:
- طلب الحماية العلنية من دول أجنبية معادية للشعب السوري وثورته، مما خلق حالة من الشك والريبة في الوسط الطلابي، خاصة في ظل تصاعد الخطاب الخارجي المعادي للسوريين.
- تعزيز النعرات الطائفية داخل الجامعات، من خلال ما يتم تداوله بين الطلاب أو عبر منشورات على وسائل التواصل، تروّج لفكرة “الخصوصية الطائفية” على حساب الهوية الوطنية الجامعة.
- سبّ بعض الرموز الدينية والشخصيات الوطنية السورية، مما فجّر مشاعر غضب عارمة لدى شريحة واسعة من الطلاب، وخلق استقطاباً حاداً في البيئة الجامعية.
- التجييش الإعلامي والتحريضي ضد تيارات دينية أو سياسية مُعيّنة، عبر منصات إعلامية محلية ومناطقية، الأمر الذي ساهم في تشويه صورة بعض مكونات المجتمع السوري وتخوينها.
هذه السياسات والأحداث التي حدثت ساهمت بشكل كبير في خلق جو مشحون بالتوتر والانقسام لدى فئات كبيرة من الطلاب، مع ازدياد واضح للخوف من ردة الفعل التي من الممكن أن تضر بهم كطلاب، خاصة مع الترويج الإعلامي الكبير لبعض المقاطع المصوّرة لخروج بعض الطلاب المحسوبين على فئات معينة من السكن الجامعي راحلين باتجاه مناطقهم الأصلية، الأمر الذي أثار حفيظة الكثير من الطلاب السوريين من كافة الفئات المجتمعية.
ومع تزايد الغضب المجتمعي لما يتم ترويجه وإثارة الفتن الطائفية، يتطلب منّا كطلاب خرجنا من رحم الجامعات السورية الثورية أن نتخذ موقفاً حاسماً، ونعبر عن رفضنا لهذا التمزيق وهذا التقسيم الذي يسعى البعض لإحيائه.
الجامعات يجب أن تكون الحاضنة الفكرية التي تنبذ هذا التشرذم، وتتبنى ثقافة الوحدة والتعايش بين جميع أطياف الشعب السوري.
وفي هذا السياق الذي قدمناه، يبرز التساؤل الرئيسي: كيف نتجاوز هذا الشرخ؟ وكيف نعيد بناء جسور الثقة بين أبناء الوطن الواحد، خاصة الطلبة السوريين؟
أولاً: يجب علينا أن نعترف بأننا جميعاً ضحايا لسياسات التفتيت والانقسام التي فرضها النظام طوال العقود الماضية، والتي واصلت بعض الجهات إعادة إنتاجها بعد سقوطه، تحت غطاء ديني أو مذهبي.
الثورة كانت بمثابة الفرصة الوحيدة للخروج من هذه الدائرة الهمجية، لكن تجاوز هذا الشرخ يحتاج إلى وعينا جميعاً بأننا سوريون، وأن الوطن أكبر من أي طائفة أو فئة.
ثانياً: من واجبنا أن نعمل على توعية الجيل الجديد في الجامعات وكل مؤسسات المجتمع، بأن العلم والمعرفة هما السلاح الأقوى لمواجهة الجهل والتعصب وأن الجامعات يجب أن تكون مكاناً للتقارب، لا مكاناً للصراع.
وقد كانت هناك مبادرات ناجحة في هذا السياق، ضمن جامعات الشمال السوري الذي خرجت من رحم الثورة السورية، والتي تهدف إلى تعزيز روح التعاون الطلابي، وتسعى إلى خلق مساحات حوار بين الطلاب من مختلف المحافظات، خاصة أن الشمال السوري كان يحتوي على ثقافات متنوعة ومختلفة، بسبب تهجير النظام البائد سكان تلك المحافظات إلى الشمال السوري، وتتجسد تلك المبادرات عبر جلسات تواصل ومناظرات مفتوحة حول قضايا الهوية والانتماء. كذلك تم تنظيم معارض طلابية يعرض فيها المشاركون جزءاً من ثقافتهم وآرائهم عبر مجموعة من الأعمال المميزة.
ثالثاً، علينا أن نبني مؤسسات قوية تُمثّل جميع أطياف المجتمع السوري، وأن نحرص على أن تكون هذه المؤسسات مستقلة عن أي توجهات طائفية أو حزبية ضيقة، كما يجب أن تكون هناك مساحة للجميع لكي يعبّروا عن أنفسهم دون خوف من التنمر أو الاستبعاد، مع تكريس جهود منظمات المجتمع المدني لتعزيز الوحدة الوطنية.
رابعاً: سنّ تشريعات قانونية تهدف إلى فرض تدابير وعقوبات على الأفعال التي تؤدي إلى شرخ مجتمعي وطلابي، وتهدد اللحمة الوطنية، وعلى الأفعال التي تعزز من هذا الشرخ المجتمعي، بالإضافة إلى تبني سياسات تهدف إلى معالجة هذا الشرخ والتخفيف من آثاره.
وأخيراً، يجب أن نؤمن بأن جبر هذا الشرخ ليس مهمة سهلة، ولكنه ليس مستحيلاً، الطريق طويل، والمهم أن نبدأ بالخطوة الأولى على هذا الطريق، الثورة التي ناضلنا من أجلها يجب أن تستمر في تحقيق أهدافها السامية من العدالة والمساواة والكرامة لكل السوريين، بعيداً عن أي ممارسات أو توجهات قد تعيدنا إلى التشرذم والانقسام، علينا أن نكون يداً واحدة لإعادة بناء ما دمّره النظام، ولتعزيز وحدة الشعب السوري وقوته.
طالب ماجستير قانون خاص في جامعة حلب



