لا إفراط ولا تفريط.. في ضرورة استثمار جهود “العدالة الجُزئية” في سوريا
بعد قرابة شهرين من اعتقاله، رفضت محكمة أميركية مؤخراً إطلاق سراح محافظ دير الزور السابق التابع لنظام الأسد، سمير عثمان الشيخ، بكفالة، بعد جلسة طويلة حاول فيها محاميه تبرير الإفراج عنه بأن كبر سنّه والأمراض التي يُعاني منها تمنع أي احتمال لهروبه، في ذات الوقت الذي تحدثت فيه المحكمة عن وجود تواصلات لـ “الشيخ” مع مسؤولين في نظام الأسد بينهم ماهر الأسد شقيق رأس النظام بشار الأسد، ما قد يؤكد وجود نيّة مسبقة لديه بالتخطيط للهرب من الولايات المتحدة.
في حقيقة الأمر، شكّل اعتقال محافظ دير الزور السابق في لوس أنجلوس في تموز الماضي بتهمة ارتكاب جرائم حرب مفاجأةً لكون وجوده في أمريكا لم يكن متوقَّعاً، لاسيما أنه يُعدّ من المسؤولين ذوي السمعة السيّئة والمتورطين بارتكاب انتهاكات بحق المدنيين، وبالتالي فإنه من غير المستبعد وجود مسؤولين آخرين لدى نظام الأسد وصلوا إلى الولايات المتحدة.
قضية اعتقال محافظ دير الزور السابق أعطت إشارة قد تبدو إيجابية نحو محاسبة المسؤولين من نظام الأسد، إلا أنها تظل جزءاً صغيراً من مشهد أوسع مليء بالتحديات القانونية والسياسية التي تحيط بمسألة ملاحقة نظام الأسد حتى داخل الولايات المتحدة لاسيما في ظل التهاون الأمريكي طوال السنوات الماضية في اتخاذ خطوات جديةٍ في محاسبة نظام الأسد، خصوصاً بعد تجاهل إدارة أوباما في 2013 اتخاذ إجراءات محاسبة بعد مجزرة الكيماوي في الغوطة، فضلاً عن إجهاض إدارة بايدن مؤخراً مشروع قانون مناهضة التطبيع مع نظام الأسد، ومن هنا تأتي أهمية استمرار دعم جهود محاسبة نظام الأسد -بغضّ النظر عن النتائج المرحليّة أو تعثّر المشروع- خاصة فيما لو قَدِمت الإدارة الجمهورية التي قد تكون أكثر تشدُّداً ضد إيران، ما قد ينعكس على نظام الأسد.
يُتهَم محافظ دير الزور بالمسؤولية عما جرى في دير الزور حتى مطلع العام 2013، حيث شهدت تلك الفترة سقوط الآلاف من المدنيين بين قتيل وجريح، إضافة لشنّ الفرق العسكرية والأمنية التابعة لنظام الأسد حملات دهم واعتقالات طالت مئات المدنيين، لذلك وغيره من العوامل تبقى الورقة الحقوقية، وبشكل خاص ورقة المعتقلين، واحدة من أهم الأدوات التي تملكها المعارضة السورية، إذ يمكن القول إنها باتت تُشكّل تقريباً الورقة الوحيدة التي يمكن الاعتماد عليها لمواصلة الضغط على نظام الأسد لاسيما مع انعدام فرص الحل السياسي، وكذلك فإن الملف الحقوقي يحمل دلائل واضحة بارتكاب نظام الأسد جرائم حرب في سوريا، حيث يكشف بالأدلة القاطعة عن الفظائع التي ارتكبها نظام الأسد وكانت سبباً في قطع العلاقات معه من قبل العديد من الدول الغربية والعربية بعد اندلاع الاحتجاجات في سوريا، وفي ذات الوقت فإن نظام الأسد لم يُبدّل أياً من سياساته حتى اليوم، ولذلك، فإن من الضروري أن تبني المعارضة السورية على هذا الملف الحقوقي لتعزيز جهود محاسبة نظام الأسد ومنع أي محاولات لإعادة تعويمه سياسياً خصوصاً من قبل بعض الدول التي باتت تُفكّر بذلك مثل إيطاليا وغيرها من الدول الأوروبية.
جهود المحاسبة في الولايات المتحدة.. بين سياقين:
وتجدر الإشارة إلى أنه في سياق محاسبة نظام الأسد بالولايات المتحدة يتداخل نوعان من الجهود يعكسان سياقين مختلفين. الأول هو السياق القانوني القضائي، حيث يرتبط بالاختصاص الدولي للمحاكم الأمريكية في قضايا جرائم الحرب وجرائم ضد الإنسانية. على سبيل المثال، اعتقال محافظ دير الزور السابق سمير عثمان الشيخ بتهم تتعلق بجرائم حرب يُمثّل تجسيداً لهذا السياق، فهذا المسار يعتمد على الإجراءات القانونية القائمة، مثل محاكمة المتهمين عندما يكونون في الأراضي الأمريكية، وهو مسار يتطلب بناء ملفات قانونية قوية من قبل المنظمات الحقوقية، رغم أن نتائجه قد تكون محدودة من حيث عدد القضايا والمحاكمات.
أما الثاني فهو السياق السياسي، الذي يرتبط بالسلطة التشريعية والتنفيذية في الولايات المتحدة، فهذا المسار وإن كانت نتائجه أوسع ومباشرة، إلا أنها غير مضمونة وتخضع لتوازنات السياسة، فعلى سبيل المثال تعكس جهود بعض أعضاء الكونغرس الأمريكي لتمديد قانون قيصر حتى عام 2028، وكذلك مشروع قانون مناهضة التطبيع أحد أوجه هذا السياق، وذلك بسبب التباين في مواقف الإدارة الأمريكية.
لكن بطبيعة الحال فإن الجمع بين هذين السياقين -القانوني والسياسي- يُمكن أن يعزز من الضغط على نظام الأسد، إلا أن النتائج قد تكون متفاوتة وتعتمد على تفاعل وتوازن القوى في الساحة السياسية والقانونية في الولايات المتحدة.
ويأتي في مقدمة الإجراءات التي يمكن أن يقوم بها اللوبي السوري أو المنظمات الحقوقية السورية في سياق مساعيها لتعزيز جهود محاسبة نظام الأسد في الولايات المتحدة على المستويين القضائي والسياسي هو السعي لمحاولة بناء ملفات قانونية تتضمن أدلة موثقة على جرائم الحرب وحقوق الإنسان، والتعاون مع خبراء قانونيين لمعرفة الأدوات التي يمكن من خلالها تقديم تلك القضايا في المحاكم الأمريكية، فضلاً عن ضرورة بناء تحالفات مع جهات تملك تأثيراً على صُنّاع السياسات لاسيما المشرعين الأمريكيين، لجعل القضايا المرتبطة بسوريا ضمن أولويات النقاش السياسي، فعلى سبيل المثال: قانون قيصر ما كان ليُبصر النور لولا تبنّيه من قبل بعض المشرعين الأمريكيين من الصياغة والدعم والترويج وصولاً إلى الإقرار وجعله قانوناً ساري المفعول.
ختاماً يمكن القول إن ملاحقة مجرمي الحرب الذين يصلون إلى الأراضي الأميركية تبدو فرصة لا ينبغي التغافل عنها وإن كانت تشكل عدالة جزئية، بل إن هذه الجهود ينبغي أن تمتدّ بتوسّع في الساحة الأوروبية، خصوصاً أن هناك دول سلكت طريقاً بهذا المسار مثل ألمانيا وفرنسا وهولندا، لاسيما مع وصول أعداد من مجرمي نظام الأسد إلى أوروبا كلاجئين طوال السنوات الماضية، وبالتالي فإن تعزيز تلك الجهود مع السعي لتمديد قانون قيصر وإعادة محاولة تفعيل قانون مناهضة التطبيع قد تُشكّل جميعها جبهة قوية في الضغط على نظام الأسد بغضّ النظر عن محدوديّة النتائج.
مساعد باحث في مركز الحوار السوري، يحمل إجازة في الأدب العربي من جامعة الفرات السورية، عمل كاتباً وصحفياً ومدققاً لغوياً لعدة سنوات في العديد من المواقع والقنوات الإخبارية